شهد العام 570 الميلادي اندحار أصحاب الفيل، وفي منتصف ربيع الأول من العام نفسه، ولد ابن آمنة النبي محمد (ص). وبعد خمسين عاماً، وفي الشهر العربي الجميل نفسه، هاجر إلى يثرب، ومع الهجرة، بدأ وجه العالم يتغيّر، مع انبعاث روحٍ جديدةٍ في أوصال تلك القبائل المتناحرة من أجل الكلأ والمرعى وسبي النساء.
ثلاثة عشر عاماً قضاها (ص) يتحمّل وأصحابه جبروتَ قريشٍ وطغيانها، وعشرة أعوامٍ قضاها في نزاعٍ مسلحٍ مرير، حتى عاد إلى وطنه فاتحاً، يقود جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل. ودخل مكة من دون إراقة دماء تذكر، بل أخذ يدفع دية بعض من قتل على خلاف التعليمات أثناء اقتحام المدينة. وبعد تتمة الفتح، وقفت جموع القرشيين كأن على رؤوسهم الطير، فاغرين أفواههم ينتظرون كلمته فيهم، فلم يزد على أن قال: «اذهبوا... فأنتم الطلقاء».
الرجل الذي اختاره المؤرخ وعالم الفلك والرياضيات مايكل هارت في كتابه «الخالدون المئة»، على رأس أعظم مئة شخصية في التاريخ وأكثرها تأثيراً على البشرية، كان إذا مرّ بالصبيان سلّم عليهم كما يروي المؤرخون. وعندما يسمع بكاء الصبي وهو يؤم المصلين يسرع في إنهائها مراعاةً لأمه، وعندما يركب حفيده على ظهره يطيل الصلاة حتى ينزل. مثل هذا السلوك الرقيق كان موضع استغرابٍ في بيئةٍ بدويةٍ جافةٍ من المشاعر، حتى استنكر عليه أحد الأعراب تقبيله الحسن والحسين، بقوله إن لي عشرةً من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فردّ عليه: «أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟». ولما توفي ابنه ابراهيم فاضت عيناه بالدموع، في بيئةٍ تعتبر ذلك ضعفاً أو بدعة، فقال أحدهم مستنكراً: «ما هذا يا رسول الله»؟ فقال: «رحمةٌ أسكنها اللهُ في قلوبِ عباده».
في ذلك المجتمع، كان العبيد جزءًا من التركيبة البشرية للمدن الكبرى، يلاقون الهوان والذل وسوء المعاملة، أما خادمه أنس فيقول: «خدمت النبي (ص) عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا». وقالت عنه إحدى زوجاته (رض): «ما ضرب رسول الله (ص) خادماً له ولا امرأة»، بينما «يتفنّن» ربع «المسلمين» في مطلع القرن الحادي والعشرين في ضرب زوجاتهم!
الرجل الذي غيّر وجه التاريخ، لم يكن يأنف أو يستكبر من المشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. وقف في أخريات حياته مناشداً الناس أن يقتصوا منه إذا أساء إلى أحدٍ قبل أن يقف أمام ربّه فيطول الوقوف، فتقدّم منه أحدهم كان قد أصابه في بطنه بعصاه يوماً دون قصد، فرفع قميصه ليعلمنا كيف تكون العدالة والإنصاف، فتقدم الرجل وقبّل بطنه الشريف، فهذا كان مراده وليس القصاص. ودعا يوماً لتسمعه الأجيال القادمة عبر القرون: «اللهم من ولِيَ من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به».
الرسول الذي وقف أمام طفلٍ يبكي على طيره النافق، يربت على كتفه ويواسيه، ماذا كان سيقول لو رأى أشلاء المسلمين التي تمزّق كل يوم هنا وهناك، وكيف سيكون دعاؤه لو رأى ما يجري من قتلٍ وتفجيرٍ ومفخخاتٍ في المساجد باسم الجهاد؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1319 - الأحد 16 أبريل 2006م الموافق 17 ربيع الاول 1427هـ