في مثل هذا الأسبوع، من شهر ربيع الأول، في زمنٍ بعيد، شهد أحد بيوت مكة إشراقةَ مولودٍ جديد، يخبئ له المستقبل أن يكون حاملَ آخرِ رسالاتِ السماء.
مات عنه أبوه وعمره سبعة أشهر، وعندما بلغ السادسة ذهبت به أمه إلى يثرب لزيارة أخواله، وهناك زارت معه قبر زوجها الشاب. لا أدري كيف شعرتْ ولا كيف كان يشعر الطفل اليتيم وهو يجلس على قبر أبيه الذي لم يره، بينما لكل الأطفال آباءٌ يناغونهم ويلاعبونهم. لكن من المؤكد انه لم يكن يدري ما يخبئه له القدر عن قريب، ففي طريق العودة إلى مكة، عندما وصلا الأبواء، فقد أمه التي لم تتجاوز الثلاثين. كان الجرح غائراً جداً في تلك النفس الغضة، فلِفَقْدِ الأحبةِ طعمٌ أمرّ من العلقم، لا يعرفه إلا الفاقدون.
خرج الصبي من مكة مع أمه، ولكنه عاد إليها وحيداً، فكفله جده عبدالمطلب، الذي اجتهد لتعويضه عن حنان أبويه، ولكن القدر لم يمهله أكثر من عامين، فمات هو الآخر ليكفله عمه أبوطالب، ولترعاه فاطمة بنت أسد التي كان يناديها «أماه». يتيمٌ يتقلّب من كفٍّ حانيةٍ إلى كفٍّ أكثر حنواً، فمقدّرٌ على هذا الطفل أن يتشرّب اليتم على مراحل، ليصنع تحت عين السماء، فبانتظاره مهمةٌ كبرى... هي إصلاح حركة التاريخ.
كانت نساء البادية آنذاك تنزل الحواضر لاسترضاع أطفال الأسرِ الميسورة لقاء مبلغٍ من المال، ولكن من يطمع في غلامٍ يتيم؟ وهكذا كان من نصيب حليمة السعدية، التي كرهت أن تعود خالية الوفاض، وأقنعها زوجها بقوله: «خذيه عسى الله أن يجعل فيه خيراً كثيراً»، ولم يكن يدري أن فيه خيراً كثيراً للانسانية جمعاء.
وهكذا تربّى الصبيُّ في البادية، في بيئةٍ تئِدُ البنات خشية العار، وتقتل الأطفال خشية الفقر والإملاق. مجتمعٌ يتورّط في حربٍ لمدة أربعين عاماً من أجل ناقة، وقبائلُ تتناحر على بئرِ ماء، وتعبد التماثيل المعلّقة في الكعبة، وتسيطر عليها الأثرة والعصبيات والمنكر.
كان اليتيم ميّالاً للوحدة، ينفر من مفاسد المجتمع ويتطلّع نحو السماء متأملاً، وكثيراً ما يلجأ إلى جبل حراء على أطراف مكة، يختلي بنفسه ليفكّر طويلاً في طريق الخلاص لهذه الأمة الضائعة، حتى نزل النداء ذات مساء: «اقرأ»، إيذاناً بمولدِ عصرٍ جديدٍ، وعلى الأمة الخاملة أن تنفض عنها مواريثَ الجاهليةِ وغبارَ القرون. وهكذا نزل من رأس الجبل ليقف على ناصية الجزيرة العربية منادياً: «جئتكم بالحنيفيةِ السمحاء».
ثلاثة عشر عاماً، قضاها في مكة يحرث في الصخر، حتى ضاقت به قريش وتطاولت إلى قتله، فخرج مهاجراً إلى أرض الأحبّة. ولما شارف على ربوع يثرب بدأ شريط الذكريات يدور: هنا كان يلعب قبل خمسين عاماً مع طفلةٍ من بني النجار، وهناك كان يلعب مع صبيةٍ يلاحقون الطيورَ الحالّةَ فوق الأشجار. في هذه الدار نزلت به أمّه، وفي تلك البقعة كان قبر أبيه. جاء اليوم مطارداً من قومه، فتلقّاه أهلها بالدفوف مردّدين الأنشودة الخالدة: طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع.
بعد ستّ سنوات، وفي الطريق إلى الحديبية، مرّ (ص) بالأبواء، فانفتح الجرحُ الغائرُ مرةً أخرى، وانهال شريط الذكريات، فوقف يخاطب أصحابه: «إن اللهَ أذن لمحمدٍ بزيارةِ قبرِ أمّه»، وأتى القبر فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء نبي الرحمة ونبع الإنسانية والوفاء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1318 - السبت 15 أبريل 2006م الموافق 16 ربيع الاول 1427هـ