لقد وصلنا إلى مطار الخرطوم بسلامة الله ورعايته وشكرنا طاقم الطائرة على عنايتهم وضيافتهم اللائقة، إنها العناية الإلهية. لبثنا في الطائرة ساعة ننتظر الإذن بالنزول وتسليم شحنة الأدوية إلى الفريق الطبي السوداني المختص. كان ضابط داكن البشرة وبرتبة كبيرة في استقبالنا عند نزولنا من سلم الطائرة وقد رحب بمقدمنا أجمل ترحيب. لفت نظري وجود أكثر من عشر طائرات شحن سعودية ضخمة رابضة بالمطار وعندما سألت قالوا لنا إنها تحمل شحنات كبيرة من المواد الطبية والغذائية أيضاً، وبالنسبة إلينا في البحرين فقد جهزت سفينة تجارية أقلعت من ميناء سلمان تحمل مواد غذائية متنوعة إلى ميناء أم درمان واشتملت على الرز البسمتي إلا أن الاخوة في السودان كانوا يفضلون بدل الرز العدس والفول والبقوليات كما أنهم يميلون إلى تناول الرز المصري قصير الحبة على رغم أنهم طوال القامة ضخام الجسام. وللناس فيما يعشقون مذاهب. كانت الضيافة السودانية كريمة جداً وكان لنا لقاء حميم مع وزير الصحة ومع مسئولين آخرين في وزارة الخارجية السودانية ولبثنا في السودان خمسة أيام وسكنا في فندق الهلتون الذي أقامته دولة الكويت الشقيقة وهو أجمل وأضخم فندق في السودان قاطبة ولابد هنا من أن أنوه بسفير الكويت آنذاك عبدالله السريع الذي استقبلنا مع المسئولين السودانيين في المطار وكان يرتدي الجلباب السوداني الأبيض وكذلك العمة وأصر على اصطحابنا في سيارته إلى فندق الهلتون عبر شوارع ذات حفر أخاديد وليست مسفلتة إطلاقاً. كما التقينا أعداداً كبيرة من شباب الكويت، الإمارات والسعودية يمثلون الجمعيات الخيرية في بلدانهم وهم يسهمون بتقديم المعونات الإنسانية إلى المحتاجين إليها وبعضهم يقيم في السودان على فترات طويلة لانجاز المشروعات الإنسانية التي تشرف عليها بعض الصناديق والجمعيات الخيرية الخليجية مثل جمعية الدعوة الإسلامية وجمعيات أخرى كثيرة ويشرفون على حفر الآبار ولابد أن أنوه هنا ببعض المحسنين من البحرين من عائلة الكوهجي الذين أشرفوا بدورهم على حفر هذه الآبار الضرورية في مناطق كثيرة من السودان. وفي فندق الهلتون مكان إقامتنا التقيت شخصية قطرية فاضلة بحوزتها أكثر من مئة ألف دولار تقوم بتوزيعها على العائلات السودانية المحتاجة مباشرة ومن دون إعطائها للجهات الحكومية السودانية الرسمية وذلك ضمانا لوصولها إلى محتاجيها. من ناحية أخرى رتبت الجهات الرسمية لنا نحن وفد البحرين في صباح اليوم الثاني طائرة مروحية إذ حلقت بنا فوق المناطق المنكوبة التي تعرضت للسيول وغمرتها المياه ومنها أحياء سكنية كثيرة في مناطق واسعة حول مدينة الخرطوم.
لاحظت في المطار سرباً عراقياً من الطائرات المروحية ولمحت طيارين عراقيين ببزاتهم العسكرية في قاعة الاستقبال عند وصولنا. ونحن نتحدث عن الخرطوم آنذاك، تعود بي الحوادث إلى مؤتمر الخرطوم الأول للصمود والتصدي وذلك قبل 39 عاماً والذي عقد في أغسطس / آب 1967 هذا المؤتمر جاء بعد هزيمة حزيران مباشرة وأطلق عليه مؤتمر اللاءات الثلاث أي لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف بـ «إسرائيل» وفي هذا المؤتمر وقف الملك فيصل «عليه رحمة الله» يتصدى للمزايدات التي كادت أن تعصف بأجواء هذا المؤتمر عندما كان رئيس اليمن الجنوبي يخاطب الرئيس عبدالناصر أو يزايد عليه بقوله يجب أن يقاتل العرب حتى آخر جندي، فخاطب الملك فيصل الرئيس عبدالناصر بقوله إن الأخ اليمني يريد أن يقول حتى آخر جندي مصري. لأن جيش مصر هو الجيش العربي الوحيد القادر على التعبئة والقتال. وان الملك فيصل هو أول من رفع يده معلنا تخصيص صندوق دعم مالي لمصر، سورية والأردن وافتتح الاكتتاب بتبرع سخي من السعودية وترك الباب مفتوحاً للدول العربية الأخرى لكي تتبرع بما تستطيع لدعم المجهود الحربي العربي. كانت حرب اليمن التي كانت استنزافاً للجيش المصري ألقت بظلالها وتداعياتها وآثارها على العلاقات المصرية السعودية فأصابتها بالضعف والعقم وجاءت هذه الهزيمة لتكون مراجعة موضوعية لتوحيد الصف العربي، كان قطبا الخلاف هما الملك فيصل والرئيس عبدالناصر الذي كان مكسوراً.
ويذكر أن الملك فيصل وعبدالناصر رفض كل منهما أن يكونا معاً مع الرئيس إسماعيل الأزهري في سيارة واحدة عند وصولهما في وقت واحد أو قريباً من ذلك. ومن الأمور الطريفة أن الرئيسين المصري والسوداني وهما يجتازان بسيارتهما المكشوفة شوارع الخرطوم كانت الجماهير السودانية المحتشدة ترحب بعبدالناصر بترديد هتافات مدوية تقول «مرهب مرهب بطل الهروبة» بحسب اللهجة السودانية - وان القارئ اللبيب بفطنته وذكائه يدرك اللفظ الصحيح!.
وشهد هذا المؤتمر أيضاً صلحاً مؤثراً بين الرئيس عبدالناصر والملك فيصل في أعقاب تلك الهزيمة وذلك لمواجهة التحديات التي أوجدها العدوان الإسرائيلي وإزالة آثار عدوانه وتوحيد ورص الصف العربي
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1318 - السبت 15 أبريل 2006م الموافق 16 ربيع الاول 1427هـ