أن تكتمل دورة إيران النووية يعني أن كفاحها المضني من أجل الاستقلال أثمر «تأميماً» مبكراً لتكنولوجيا الطاقة الذرية. وهي بكل المقاييس خطوة نوعية باتجاه التحرر الناجز. سبع دول قبل إيران امتلكت تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم أربع منها دول عظمى احتكرت حتى الآن ولاتزال مصرة على احتكار «صناعة الوقود النووي» وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية لا لشيء الا لأنها تريد التحكم بمسارات هذه الطاقة البديلة المتقدمة في العالم.
وكل ذلك الاحتكار كان ولايزال ساري المفعول بقوة «الغلبة» للأقوى الذي لا يثق الا بشركائه الذين خرجوا منتصرين في الحرب العالمية الثانية فأنشأوا الأمم المتحدة ومجموعة القوانين و«المعايير» التي يسمونها اليوم على رغم أنف الأكثرية المنتهكة حقوقها من قبل الأقلية المنتصرة «بمعايير المجتمع الدولي»!
وعندما نسبر في العمق تفاصيل معركة الاستقلال التي تخوضها إيران بعنوان الملف النووي سنجدها ملخصة في الأبعاد الآتية المغيبة عن المسرح عمداً بقوة قانون «غلبة» منتصري الحرب الثانية مرة أخرى:
1- ان النفط والغاز باعتبارهما المادتين الأساسيتين حتى اليوم في تأمين الطاقة اللازمة للوجود الإنساني على الأرض أخذتا قسطاً وافراً من حظهما في التحكم بمسارات الحراك السياسي والمعادلات الدولية في المشهد العالمي العام وقد حان الوقت «للتحرر» منهما عملياً وبالتالي سياسياً وكل ما ترتب على ذلك من تحولات استبدال هذه الطاقة بطاقة بديلة أو طاقات بديلة.
2- تنامي النزعة العالمية لدى الدول بمختلف توجهاتها للبحث عن بدائل مناسبة لهذه الطاقة التي باتت «مؤرقة» للحكام والشعوب معاً عدا بعض المنتفعين الخاصين بحيث ان بعض الدول بدأت تبرمج للعام 2025م من دون نفط وغاز مطلقاً مثل السويد كما جاء في تقارير دولية حتى من دون الاعتماد على الطاقة النووية البديلة، هذا فيما لا يخفى على المتابعين اللبيبين مدى الاهتمام الجدي الذي تبذله الدول المحتكرة للطاقة النووية اليوم وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة للانعتاق من «أرق» الاعتماد على النفط والغاز.
3- تجمع التقارير العلمية المتوافرة لدى المجتمع الدولي على أن مادتي النفط والغاز يمكن اعتبارهما بسهولة طاقة «ناضبة» أو آفلة للنفاد والنضوب في الأجيال القادمة طالت المدة أو قصرت.
4- تنامي الاعتقاد لدى العلماء والباحثين بأن الطاقة النووية ستصبح بعد نحو 40 إلى 50 عاماً مقبلة هي الطاقة الموازية في الأهمية للطاقة النفطية والغازية ان لم تكن أكثر أهمية منها والأكثر تحكماً في اقتصادات الدول وسياساتها طبعاً.
5- عندما يجري الحديث عن الطاقة النووية والتكنولوجيا النووية في الإعلام الموجه نحو العالم الثالث أو المتداول في أروقة المشهد العام في العالم الثالث غالباً ما يتعمد إيجاد اللفظ المبرمج والمخطط له بعناية بأن التكنولوجيا النووية تساوي التسلح النووي وبالتالي تساوي العنف والقتل وحروب الابادة وأسلحة الدمار الشامل وفي أحسن الأحوال الأخطار البيئية القاتلة على غرار واقعة «شرنوبيل» ولاسيما عندما تكون الدولة المعنية بهذا اللفظ المتعمد دولة عالم ثالثة مسلمة أو عربية! هذا فيما يتم الحديث عن هذه الطاقة وهذه التكنولوجيا وهذا العلم - جزء من العلوم الفيزيائية المتقدمة الضرورية والمطلوبة لاستمرار الحياة والبقاء للجنس البشري وهي فعلاً كذلك - عندما يتم تداول الأمر في قنوات الإعلام والتواصل المعرفي داخل أطر العالم الأول أو عالم الشمال الغربي المرفه!
6- أخيراً وليس آخراً فإن آخر ما يعلم عنه المواطن المتلقي في بلداننا الفقيرة والمقموعة والتابعة والمتحكم بها من قبل دول المنتصرين في الحرب العالمية الثانية هو أن هذه التكنولوجيا المتقدمة باتت ضرورية وأساسية ولازمة لا غنى عنها في أكثر من 200 إلى 300 علم أو صناعة أو حقل حياتي أو بناء أو علوم حديثة معلوماتية أو تكنولوجية عالية ليس أقلها الصناعات المتطورة التي جعلت ولاتزال تجعل الدول المحتكرة لـ «الوقود النووي» المنتج بفضل عمليات التخصيب لليورانيوم لها اليد العليا في كل المجالات الحياتية للإنسان المعاصر.
هل أصبح معلوماً بعد كل ما تقدم لماذا لا يراد لمصر أو السعودية أو ليبيا أو العراق أو إيران أو أية دولة عربية أو مسلمة ان تحصل على هذه التكنولوجيا المتطورة؟! وإذا ما تم «التغاضي» عن حال استثنائية أو الاهمال في ملاحقة «تفلتها» من هذا القانون فإن ذلك يصبح «مسموحاً» فقط عندما يكون في إطار الاحتواء المزدوج كما هي الحال مع الباكستان لوضعها في مقابل الهند وفي إطار السيطرة على نزاع القوتين الصينية والروسية المنافستين للعالم الغربي.
وأخيراً هل بات معلوماً أيضاً لماذا لا تريد الولايات المتحدة ولا حتى الترويكا الأوروبية، بل ثمة من يزعم حتى روسيا أن تصبح دولة مثل إيران مالكة للتكنولوجيا النووية؟! أو أنه كلما رفعت رأسها لتقول كلمة ما أو أقدمت على خطوة ما لرفع ما يسمى بالغموض في برنامجها النووي الا وأخرجوا لها من تحت الأرض حجة جديدة تحمل شبهة «التسلح النووي» أو السعي من أجل امتلاك أسلحة الدمار الشامل؟!
في مثل هذا السياق فقط يمكن فهم واستيعاب الاصرار الإيراني على عدم التراجع عن حق إيران ليس فقط في امتلاك التكنولوجيا النووية نظريا بل وترجمة ذلك إلى برنامج عملي متكامل وعمل جدولة زمنية تبدأ بالأبحاث النظرية والتخصيب على نطاق محدود وصولاً إلى التخصيب على مستوى الإنتاج الصناعي الواسع.
إنه «التأميم» المبكر للطاقة البديلة التي ستصبح مع منتصف القرن الحالي هي الطاقة الأكثر انتشاراً إذاً والتي تسعى دول الاحتكار النووي منذ الآن لتصبح «السيدة» المتحكمة في هذه الطاقة بالقابل.
انه سباق ماراثوني تخوضه إيران في غاية الحساسية والصعوبة قد لا يقبل غير النصر أو الهزيمة كما يبدو من دون ان يعني بالضرورة الصدام أو الاستسلام، ذلك لأن طرق الحكمة والتدبير والتروي واختيار «خير الشرين» لا تغيب عن أذهان صناع القرار الإيراني البتة
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1317 - الجمعة 14 أبريل 2006م الموافق 15 ربيع الاول 1427هـ