في كل مرة أزور فيها ماليزيا ازداد إعجاباً بحيوية تفكير المسئولين الكبار بها... واستعانتهم بخبرائهم في تخطيط وتنفيذ مشروعاتهم الهادفة إلى تطوير معيشة المواطن والاقتصاد الماليزي كما يشد انتباهي احترامهم للمرأة... بإتاحة أعلى المناصب لها بخلاف رئاسة الوزارة المحصورة حتى الآن في الرجل... ما يعكس نظرتهم الإسلامية الحضارية البعيدة عن التخلف والرجعية.
لكنني في هذه المرة انبهرت ببساطة رئيس الوزراء الماليزي عبدالله أحمد بدوي الذي استقبلنا كضيوف لماليزيا للتعرف على فن الباتيك (الرسم على القماش) في بيته بطريقة غير رسمية... لقرب مضيفتنا رئيسة مركز ليلى محمد علي (بودي بون يياسنك الخيري) من زوجة هذا الرئيس التي رعتها أثناء إصابتها بداء السرطان... وصداقتها الحميمة بها ومساندتها الدائمة لها في تسيير شئون هذه المؤسسة الخيرية التي قامت حرم رئيس الوزراء بتأسيسها قبل أن تصاب بهذا الداء العضال إلى أن حكم عليها القدر بالرحيل منذ خمسة شهور، بعد قصة زواج ناجح امتد أكثر من ثلاثين سنة... لكنني لم أر على ملامحه إلا القبول بقضاء الله والصبر على رغم الحزن الشديد الذي يطل من عينيه رغماً عنه... ويلمسه من يدرك ما تمثله هذه الزوجة من مكانة كبيرة في نفسه... كان لطيفاً هادئاً محباً لأطفاله وأحفاده... إلا أن وجوده في منصب مسئول يتطلب منه أن يؤدي واجباته بشكل طبيعي وكأنه لم يفقد منذ فترة قصيرة رفيقة حياته المحبة الحنون... التي عملت على توفير قصر رائع بأجنحته لأي رئيس وزراء ماليزي... على رغم معاناتها مع مرضها وقامت بوضع لمسات الديكور الجميلة... بذوق راق وألوان دافئة كانت تتغير مع كل غرفة في القصر... بألوان تتناسب معها على حدة... كان الغالب على الألوان في غرفة الجلوس لون الخوخ ممزوجاً بألوان الرمادي والأزرق بينما يغلب اللون «البيج» والبني في غرفة أخرى... وهكذا تتنوع الألوان إلا أن ما يجمعها هو الرقي والفخامة والذوق الرفيع.
كما بهرتني مكتبة رئيس الوزراء الكبيرة المتنوعة بما فيها من كتب كثيرة تدل على اتساع ثقافته... واندهشت عندما ذكر أحد الشعراء المعروفين... إلا أني علمت فيما بعد أن لغته العربية قوية... وأن أصله الممتد لعدة أجداد عربي. إن وفاءه الإنساني لزوجته هو ما أثر في نفسي كثيراً وكان يدل على رقيه الأخلاقي والإنساني... إذ أخذنا في جولة في قصره ننتقل من غرفة إلى أخرى ليشرح لنا ما فعلته زوجته من جهد في التصميم والديكور الذي أشرفت عليه بالكامل على رغم مرضها... والمحزن أنها توفيت بعد أن انتقلت الأسرة إلى هذا المقر الجديد بيوم واحد... وكأنها أنهت مهمتها لهم ليسكنوا فيه براحة كما أرادت... كان يشرح لنا عن كل غرفة وما هو استخدامها... ثم أخذنا إلى الدور العلوي وأرانا الزاوية التي وضعت زوجته بها كل مقتنياته من الأخشاب النادرة المجسمة التي تمثل هواية عزيزة على نفسه. لقد تركت هذه الزوجة وجودها في كل مكان... حتى حديقة البيت قامت بتنسيقها ووضع الأشجار والورود المحببة إليهما في أنحائها مع بركة جميلة... وعندما سرنا في جميع أنحائها أخذنا رئيس الوزراء إلى شرفة أنيقة تطل على مناظر الطبيعة الخلابة والمباني الحكومية ذات المعمار الهندسي الرائع النابع من التراث الماليزي... بعد أن قرر المسئولون منذ حكم المهاتير محمد أن ينقلوا الدوائر الحكومية إلى منطقة جميلة خارج وسط العاصمة... ليساهم ذلك في تخفيف الازدحام المروري مستقبلاً. ولم يكتف رئيس الوزراء باستضافتنا في بيته... وإنما قام بتعريفنا بأبنائه وأحفاده... ولاحظت اهتمام ابنته (نوري) به وعنايتها براحته... وإقامة كل من ابنته وابنه (كمال). وأبنائهم معه في مقره في أجنحة خاصة بهم.
ولم أتوقع أن يدعونا إلى تناول العشاء معه ومع أسرته في مطعم قريب من مقر إقامته... وطبعاً دخول رئيس مجلس الوزراء إلى المطعم... أثار ضجة كبيرة... لكنني لاحظت عليه تواضعه الشديد في التعامل مع الموظفين.. وعندما جلسنا وبدأ الحديث... كان أبناؤه يعاملونه أمامنا كأب من دون ألقاب... وبدأ الطعام الشهي يتوالى علينا... وهو يتحدث في جميع الموضوعات معنا ويكرم ضيوفه بأن يقدم لهم بعض الصحون البعيدة عنهم بيده... الخلاصة أنني لم أشعر أنني على طاولة مع رئيس وزراء ماليزيا وإنما مع إنسان طيب وهادئ وعائلي وودود مع أفراد أسرته وضيوفه ومتواضع مع كل من يتعامل معه... وتمنيت أن يتعلم منه رؤساء الوزراء العرب في تعاملهم مع الناس من دون افتعال الضجة من قبل الموظفين الرسميين عندما يهلوا في أي مكان في أي مناسبة خاصة
إقرأ أيضا لـ "سلوى المؤيد"العدد 1317 - الجمعة 14 أبريل 2006م الموافق 15 ربيع الاول 1427هـ