إن وصول أية أمة إلى مركز الريادة بين الأمم، يتوقف في شكل أساسي على امتلاكها مشروعاً حضارياً ينطلق من رؤية شاملة ومتكاملة للحياة، ولدور الإنسان فيها، وقد استفدنا من التاريخ بأن كل أمة ليس لديها مشروع متكامل لم يحالفها الحظ في مسيرة التنافس الحضاري، وغدت أمة هامشية بين الأمم. ولأن الإسلام خاتم للرسالات، فقد أرسى القواعد لمشروع حضاري رباني، وخطا خطوات مهمة على هذا الصعيد جاءت استكمالاً لجهود الأنبياء السابقين والرسالات السماوية السابقة، فالإسلام بحسب اعتقادنا وفهمنا لم يأتِ لينقض ما بناه الأنبياء السابقون، بل جاء ليتمم مسيرتهم ويكمل مشروعهم الرسالي العالمي، ولهذا لم نجد في القرآن الكريم حديثاً عن أديان مختلفة بل عن دين واحد بشرائع مختلفة فرضها اختلاف الزمان والمكان وتدرج المعارف الإنسانية.
وإذا كان لكل مشروع ركائزه التي يرتفع بنيانه الحضاري على أساسها، فإن للمشروع الإسلامي ركائزه، ومن أبرزها:
أولاً: اعتبار الإنسان هو صانع التغيير وصانع الحضارة والقائم على إدارة هذا المشروع، ولهذا ركز القرآن على اعتبار الإنسان خليفة الله على الأرض بما تعني الخلافة من دور رسالي تغييري وليست مجرد وسام تشريفي، فالخلافة تستدعي العمارة، عمارة الكون عمراناً معنوياً ومادياً، قال تعإلى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» (الاحزاب: 72).
ثانياً: اعتماد المشروع الإسلامي على مصادر متنوعة للمعرفة وللإبداع الحضاري، وهذه المصادر تتلخص بالوحي كعنصر أساسي يطل بالإنسان على الله وعلى الغيب ليستمد الهداية والإرشاد والقوة المعنوية التي تعتبر عوناً أساسياً للإنسان في عمارة الأرض. وبالعقل كطاقة داخلية أودعها الله في الإنسان لتمنحه التبصر والتدبر وليكون ميزاناً يزن به الأمور والمواقف. وتأتي التجربة كأداة من أدوات العقل التي يحركها لاكتشاف مجاهل هذا الكون وأسراره، ولتكون عنصراً من عناصر التقدم والرقي والمعرفة. فعناصر الإبداع هذه تأتي متكاملة في نظر الإسلام الذي لا يرى بينها تناقضاً، وبالتالي فإن الإسلام يرفض اختزالها وتجزئتها والانطلاق من بعد أحادي في بناء المشروع الحضاري للأمة.
وفي ضوء ذلك، يمكن الإشارة إلى أهم الخصائص التي يتميز بها المشروع الإسلامي، وهي:
أ- الربانية، التي تعني أن يبقى الله مواكباً ومراقباً للإنسان في كل حركته في بناء الحياة، فالمشروع الإسلامي ليس مشروعاً مادياً تكون المادة هي العنصر الطاغي عليه، وبالتالي تغدو الحياة الدنيا غايته ومنتهاه، إنه مشروع إلهي يريد للحياة أن تكون على صورة الله؛ عدالة ورحمة ومحبة.
ب - العقلانية، فهو مشروع يعتمد على العقل كأداة في الإبداع كما هو أداة في التعرف على الله وعلى صدق الأنبياء وعلى يوم القيامة، حتى إن النص الديني يخضع للعقل في قراءته ومحاكمته، فليس المسلمون نصوصيين بالمعنى الذي يجعلهم لا عقلانيين، لأن اعتمادهم على النص لا يعني مصادرة العقل، بل إن العقل يتماهى مع النص ويتكامل معه. ولذلك وجدنا أن الإمام علي (ع) في أول خطبة في نهج البلاغة يشير إلى أن دور الأنبياء هو تحريك العقول ونفض غبار التقاليد والعادات عنها، فيقول: «...وواتر إليهم أنبياءه ورسله ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويستثيروا فيهم دفائن العقول».
ج - الواقعية، فالمشروع الإسلامي ليس مشروعاً متهوراً أو مجازفاً، ولا يتنكر للطبيعة الإنسانية التي جعلت من الإنسان مزيجاً من العقل والعاطفة، وعلى ضوء ذلك فهو يخطو خطواته بتمهل ودراية، فلا يطلب من الإنسان ما لا يستطيع ولا يحمله فوق طاقته، ولكنه يثير فيه الأمل والطموح ويحثه على أن يبقى متحركاً في خط العلم والعمل لما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
وأضاف: ولعلّ هذا ما جعل النص الديني الإسلامي يمتاز من وجهة نظرنا بمرونة تمكنه من مواكبة المستجدات والتطورات وتؤهله ليكون خاتم النبوّات.
ومن الطبيعي أن أهم شرط لنجاح هذا المشروع، مضافاً إلى انطلاقه من هذه الركائز وتلك الخصائص، هو اعتماده التخطيط والتدبير والدراسة والموضوعية كآلية أساسية ووسيلة رئيسية من وسائل العمل في سبيل تحقيق الغايات والأهداف المنشودة، هذا إضافة إلى تركيزه على العدل وإلى احترامه للمرأة وتأكيده موقعها وحركتها في قلب هذا المشروع ككيان سياسي واجتماعي وثقافي له خصوصيته واستقلاليته وكرامته. كما أن ثمة وسيلة أخرى تتمثل بالانفتاح على منجزات الآخرين، فالإسلام ليس مقفلاً أمام مسألة الاستفادة من الآخر، ولا يتعقد من الاستعانة بالمنجزات الحضارية للآخرين.
إن ذلك يقودنا بطريقة وأخرى إلى رصد المشروع المضاد، وخصوصاً المشروع الأميركي - الإسرائيلي، الرامي إلى إخضاع المنطقة العربية والإسلامية من جهة، وإلى إلزامها بلعب دور المستهلك على الصعد العلمية والاقتصادية والثقافية وما إلى ذلك. وهذا ما يفسر تصاعد الهجمة على أكثر من محور، وخصوصاً ضد الجمهورية الإسلامية في إيران لمنعها من أن تتحول إلى قوة صناعية منتجة، وما يترتب على ذلك من قوة ميدانية واقتصادية مستقلة وثابتة وراسخة في حركتها السياسية والفكرية.
إن المشروع الإسرائيلي بلغ مرحلة هي من أخطر المراحل في سعيه لإنهاء المسألة الفلسطينية لحساب مخططه الاستيطاني الكبير، وإن ما نشهده في هذه الأيام من دعم أميركي لكل الخطوات التصعيدية الإسرائيلية ولكل الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، وما نشهده أيضاً من صمت أوروبي من جهة أو ممالأة في الإعلان عن وقف المساعدات للفلسطينيين بحجة فوز «حماس» بالانتخابات وتشكيلها للحكومة يمثل استكمالاً للخطة السابقة الرامية إلى تفريغ القضية الفلسطينية من محتواها الشعبي العام والحكم عليها أمنياً. ولذلك فإننا نضع القرارات الأوروبية الأخيرة بوقف المساعدات للفلسطينيين في خانة الحرب المباشرة ضد الشعب الفلسطيني وخياراته، وإن ارتدت هذه الحرب لوناً اقتصادياً إلا أنها تستهدف في نهاية المطاف إسقاط مقولة أن ثمة شعباً سلخ من أرضه وأن أضعف الإيمان أن يقف المجتمع الدولي إلى جانبه لإقامة دولته الحرة والمستقلة.
إن علينا ألا نستعجل الحكم على فشل المشروعات المضادة في المنطقة، وخصوصاً المشروع الأميركي الإسرائيلي، التي ترى بعض الدول الأوروبية في سقوطه أو فشله سقوطاً وفشلاً لها، ولكن المطلوب هو الاستمرار في محاصرة هذا المشروع الذي بات يعتمد على ارتكاب أكبر عدد من المجازر من جهة، وعلى إذكاء نيران الحرب المذهبية بين المسلمين، وعلى الأمة بعلمائها ومفكريها وطاقاتها الشبابية والسياسية المختلفة أن تستنفر قواها لإرباك هذا المشروع وسد كل الطرقات الممكنة عليه قبل أن يحرق البقية الباقية من قضايانا وثرواتنا وإمكاناتنا
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1316 - الخميس 13 أبريل 2006م الموافق 14 ربيع الاول 1427هـ