هل كان لدى العرب قبل الإسلام ذلك الوعي بالمواطنة، وهل ألغى الإسلام الوطنية بتعزيزه لمفهوم الأمة؟ يشير المؤرخون إلى أن عرب الشمال تميزوا بالوحدة القبلية، والتي اعتبرت ككيان سياسي توازي مفهوم الوطن في الوقت الحالي، لكن هذا المجتمع القبلي افرز التقسيم النسبي على أساس التنظيم الاجتماعي، أما عرب الجنوب وهم مركز الحضارات فقد همشوا من دور القبيلة لينخرطوا في الملكية والكيانات السياسية المتفردة، والتي تلغي الجماعة لتبجل دور الفرد. ولما جاء الإسلام أعطى للأممية مدلولا خاصا لكنه في المقابل لم يحجم من أهمية المواطنة، إذ بنى علاقة وثيقة بين التدين وحب الوطن، وجعل حب الوطن من الإيمان وفقاً للحديث الشريف «حب الوطن من الإيمان» وكما اعتبره من أسمى الخلق، إذ يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) «من كرم المرء... حنينه إلى أوطانه» وهذا رسول الله (ص) يعبر عن مشاعره حين اضطر للخروج عن وطنه مكة، اذ وقف على سوق الحزوزة على أطراف مكة قائلا «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك».
بدأت فكرة المواطنة لدى العرب في العصر الحديث مع الحملة الفرنسية على مصر العام 1877م، إذ ظهرت أول صحيفة مصرية في العام نفسه تحمل اسم الوطن على غرار صحيفة فرنسية جلبها نابليون معه الى الشرق، وعلى إثر ذلك تداول مفهوم الوطن بين المفكرين والوطنيين فقد أصدر احد أساتذة اللغة في الأزهر الشريف عام 1881م كتيبا «رسالة الكلم الثمان» وهو بمثابة شرح للمفردات الشائعة اذ دخلت كلمة الوطن في عداد تلك المفردات، وعبرت مقالات عبدالله النديم «1844- 1886م» خطيب الثورة العرابية تعبيرا كاملا عن المواطنة، إذ أظهر في روايته الوطن مفهوم الوطنية القائم على ان الوطن لا دين له ولا جنس.
ومع القطرية التي أفرزها الاستعمار الأوروبي للوطن العربي ظهر مفهوم الوطن كواقع جغرافي، وظهرت معه المواطنة كالمفهوم سياسي اختلفت الدول في تحديده، فبعض الدول لا تمنح جنسيتها إلا بالاشتراط التولد من أب يحمل جنسية البلد، بينما تتساهل دول في منحها للجنسية اذ تشترط مجرد الولادة في البلد أو الإقامة لفترة محددة، لكن الجميع يتفق في ان من يحمل جنسية أي بلد فهو يتمتع بكامل حقوق وواجبات المواطنة، لكن الحقوق والواجبات تختلف واقعيا بين دولة وأخرى اذ التمييز القائم على مستويات عدة عامل مهم في الحصول على الاستحقاقات الوطنية وتوزيع الثروة العامة، كما اختلفت الدول في تحديد الممارسات التي تعتبر مخلة بالولاء للوطن، وبالتالي يجرم من يتهم بها ويتعرض للمساءلة والعقاب الذي يصل في بعض الأحيان الى حرمانه من وطنيته، فبعض الدول تحصر الإخلال بالخيانة، في حين بعض الدول تتهم المعارضة بأنها مخلة بالولاء للوطن، وهذا ما حدى برئيس دولة عربية بوصف المعارضة خارج البلاد بأنها: «الكلاب الضالة الذين لا دين لهم ولا وطن لهم»، وهنا نتساءل من يحدد المواطنة؟ ومن يحدد الإخلال بها؟ وهل للمواطنة عنوان، أو فكر، أو اتجاه؟ بمعنى هل يجب ان يكون المواطن منتميا الى قومية معينة؟ أو اتجاه علماني، أو ديني؟ وهل هو محدد بطائفة معينة؟
صار حتميا فتح ملف الوطن والمواطنة، فقوة الوطن من قوة مواطنيه، ومن الغبن ان يكون المواطن مغيبا ومقهورا، فقوة الوطن تكمن في سيادة القانون وقوته وعدالته، والوطن ليس أنشودة يرددها البعض، زاعما أنه المواطن الحق متهما الآخر المخالف له في الاتجاه بالإخلال بالمواطنة، ويستدل ببعض الشواهد التي لا تخرج عن سياق المزايدات السياسية، فالمواطنة الحقة تكمن في المطالبة بالحقوق المتساوية للجميع وبناء دولة القانون، فمن علم المواطن الإضرار بالممتلكات العامة كوسيلة انتقام؟ سوى القهر ورفض الواقع الذي يحرمهم من ثروات تتقاسم هنا وهناك، وأصبحت ثقافة وامعتصماه هي الوسيلة الأسهل والأسرع لنيل ابسط الحقوق والمتمثلة في الرزق والسكن، وهي من باب المشاركة على غرار القول الدارج «ان كل مشاركة هي شرك بالله إلا في ثلاث الماء والنار والمرعي».
ولا يعيب المواطن اختياره لأي انتماء فذلك لا يضر بالمواطنة، فالفرد منا يكره الوحدة بل يخشاها، فهو ينتمي لأسرة، و مدينة، و قومية، و دين، طائفة، وجماعة عمل، ففي الانتماء عبودية لا يمكن فصل المرء عنها، إذ إنها تمنح المنتمي إليها قوة، وشعور بالأهمية والوجود. ومن العبث تقديم الوطن هنا كبديل لتلك الانتماءات فالوطن اعم واشمل، لكن ذلك لا يعطيهم الحق في حكر الوطنية أو العمل من تحت الطاولة، ففي الانتماء وحدة التقاءات، وليست تصفية حسابات، وهو ما لا نعيه، فالحزبية ليست مقرا للطائفية والقبلية بقدر ما هي إلا توافق وقناعة بجدوى العمل الجماعي المنظم برؤية ورسالة وطنية. فأخشى ان نتحول الى مجتمع ذات تجمعات بشرية في بقعة جغرافية مشتركة، مقسمة الى محميات طائفية وقبلية لا تتجانس بل تتصارع، وتدفع بمن ينتمي إليها في الاستحقاقات الوطنية وتبعد المواطن الآخر عنها، حتى لو كان أحق بها، من دون الإحساس بارتكاب الذنب او الإخلال بالوطنية، بل يوضع ما يبرر له بالعرف تارة أو الدين تارة أخرى، وبالتالي لا يسلم الوطن اذ يذبح على منصة الطموحات والصراعات الطائفية والقبلية التي قد تطول وربما تتقاتل بلا هوادة. والحل بيد شرفاء الوطن وقياداته في رسم آلية جديدة وبرامج وطنية حقة من دون انفعالات سياسية، فهم الأقرب في تحديد المصلحة والمفسدة، وأكثر عطاء في وطن يتسع للجميع
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1316 - الخميس 13 أبريل 2006م الموافق 14 ربيع الاول 1427هـ