كانت فرصة سانحة ومفيدة أن التقي الفريق حسن سوار الذهب في مجلس العوضي في 25 مارس/ آذار الماضي، مجلس كريم ضم نخبة من الشخصيات وعلى رأسهم عميدهم علي العوضي وكما يقول المثل رب صدفة خير من ألف ميعاد. عندما التقيته بادرت بالقول إنني سبق واجتمعت به في الخرطوم في سبتمبر/ أيلول العام 1988 من القرن العشرين (الماضي) وكان قد قاد انقلابا عسكريا أطلق عليه في ذلك الوقت (أي في العام 1985) ثورة تصحيحية ضد الرئيس جعفر النميري الذي أطاح بنظامه. ولبث سوار الذهب في السلطة لمدة عام فقط ثم تخلى عنها طواعية وبمحض إرادته، وهذا أمر نادر الحدوث في عالمنا العربي الجميل! وترك سوار الذهب السلطة فعلاً إلى حكومة مدنية برئاسة الصادق المهدي. وهناك وعد مقطوع ومعلن من الرئيس علي صالح اليمن السعيد بتركه السلطة والنفوذ بعد حين وتحدث سوار الذهب عن التمرد الأول في جنوب السودان في العام 1956 إبان حكم الرئيس إبراهيم عبود وكان في ذلك الوقت في درجة ملازم أول بالجيش السوداني ومنذ ذلك الوقت أي بعد اعتزاله السلطة والنفوذ تفرغ كلياً للعمل الخيري والإنساني، وهو يرأس منظمة الدعوة الإسلامية العالمية، التي تقوم بممارسة الأعمال الخيرية والإنسانية في السودان.
كان لقائي الأخير هذا مناسبة طيبة، وقد ألقى كلمة أمام الحضور استعرض فيها الأوضاع السياسية في المنطقة العربية ولاسيما في السودان والتي تسر الخاطر بل تجلب الكدر والهم والألم. وقد ضرب مثلا بالقلاقل المتفاقمة التي تدمي القلوب لما تخلف وراءها من آلاف الضحايا من الأبرياء والمهددين بتفشي الأمراض الوبائية مثل الكوليرا في الوقت الحاضر في إقليم دارفور السوداني، وهذا الإقليم يمتد من حدود الخرطوم حتى مصر. وقال إن في إمكان السودان بالتعاون مع قوات حفظ السلام الإفريقية السيطرة على الموقف المتفجر هناك، ومن ثم استتباب الأمن والاستقرار في هذا الإقليم الغني بثرواته النفطية والمعدنية والزراعية. وقال إنه بعد التوصل إلى السلام لابد من حل سياسي سريع وإيجابي في جنوب السودان. كان الجميع يتطلعون إلى نشدان السلام في مختلف أقاليم السودان إلا أن أميركا سعت بصورة متواصلة لتدويل هذا الإقليم المهم أمنياً من خلال نقل ملفه إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة. ومن المفارقات المؤلمة أن رئيس الوزراء السوداني السابق والشخصية السودانية المعروفة والمثيرة للجدل الصادق المهدي دعم نقل هذا الملف إلى المنظمة الدولية خلافا لتطلعات وتوجهات الحكومة السودانية لعدم مشاركته في الحكم ويبدو أنه أغفل مصلحة بلاده العليا. كما أن إرسال قوات دولية يتطلب موافقة الحكومة السودانية بسبب أن هذه القوات ستكون مدعومة بقوات من حلف الناتو. كما نوه سوار الذهب بالجمعيات الخيرية الخليجية التي تشارك في إعمار السودان منذ حقبة السبعينات.
ولا بد من ذكر انني في سبتمبر 1988 ذهبت مع زميلي السفير مصطفى كمال إلى الخرطوم، وكنا ممثلين لوزارة الخارجية في البحرين، إذ قدمت حكومة البحرين دعما غذائيا ودوائيا لحكومة السودان الشقيق إثر تعرضه لسيول وفيضانات عاتية نتيجة الأمطار الغزيرة التي شردت الآلاف من أراضيهم وبيوتهم، وأحدثت دماراً كبيراً في الأراضي الزراعية التي غمرتها الأمطار. كانت مساهمة متواضعة، ولكنها واجبة من حكومة البحرين للتخفيف من مصابهم الأليم، فهم أشقاؤنا وأحبابنا. كما ساهمت جمعية الهلال البحريني في ترتيب هذه الجهود الإنسانية الخيرة من خلال الإشراف عليها، وأذكر هنا الجهود الكبيرة التي بذلها وكيل وزارة الصحة المرحوم راشد فليفل وكذلك الأخ الوكيل المساعد بالصحة محمد رحمة التاجر في إشرافهما على شحن الأدوية. وقد أقلتنا طائرة شحن لبنانية تابعة لشركة عبر المتوسط ء .ح .ش، مع شحنة من الأدوية قوامها 25 طناً تشتمل على مضادات حيوية وأدوية أخرى ضرورية لمثل هذه الكوارث الإنسانية والتي لا حيلة للإنسان لدفعها أو صدها.
جلسنا في كبينة الطائرة نفسها مع الطيار ومساعده، وشخص ثالث هو ميكانيكي، وكانوا يقولون لنا نحن اللبنانيين الثلاثة نمثل لبنان بطوائفه المختلفة وأن كل فرد منهم ينتمي إلى طائفة مختلفة، وإن لبنان يعتمد في بقائه وديمومته على طوائفه المختلفة وهذا سر قوته وازدهاره. والذي أثار دهشتنا وفضولنا بل وفرقنا وتملكنا رعب مقيم أن «بنت الراح» كانت جليستهم قبل إقلاع الرحلة وأثنائها، والتي امتدت لثلاث ساعات متواصلة من البحرين إلى مطار الخرطوم. وقد وضعنا أيدينا على قلوبنا خوفا من أن يزيدوا «الكيل» فينعكس على أدائهم في الطيران ونحن معلقون بين السماء والأرض، وتحصل لنا كارثة ولهم. وقد عبرنا البحر الأحمر وكانت أسراب كثيفة لا تعد ولا تحصى من الجراد في الجو وهي واضحة وتكاد تغطي قرص الشمس وأفق السماء بأعدادها الضخمة. وقد سعدت لأن الرحلة كانت مريحة جداً وأن مزاج الطيار وصحبه على ما يرام
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1315 - الأربعاء 12 أبريل 2006م الموافق 13 ربيع الاول 1427هـ