تجتذب معركة استقلال الصحافة والقضاء في مصر، الدائرة الآن بقوة غلابة، كل الانتباه والتركيز، انتباه الساعين لكسب الاستقلال والحرية لهاتين الهيئتين المهمتين، وتركيز الراغبين في إجهاضها وعرقلة أي إصلاح فيهما معاً.
ولذلك ليس غريباً أن تطفو على سطح الحوادث المعركة التي تخوضها الصحافة والصحافيون، لتعديل التشريعات القائمة، وإلغاء ما فيها من عقوبات سالبة للحرية، وفي مقدمتها عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر.
وفي المقابل لا يقل عنها أهمية تلك المواجهة التي يخوضها القضاة، من خلال ناديهم تمسكاً بقانون إصلاح الهيئات القضائية الذي سبق أن تقدموا به، بهدف تحقيق أعلى درجة من استقلالهم الذي ترجوه كل القوى.
وبقدر ما أن الصحافيين والقضاة يشكلون اليوم طليعة القوى الإصلاحية والديمقراطية في مصر، الأكثر نشاطا وكفاحا، دفاعاً عن بناء وطن ديمقراطي حقيقي، بقدر ما أن أعداء الحرية معرقلي الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، يبذلون كل الجهود ليس فقط لمنع أو تأجيل إصدار التشريعات والقوانين التي يطالب بها الصحافيون والقضاة، بل لتفتيت صفوفهم جميعاً واختراقهم من الداخل لافشال المعركة من أساسها.
والحقيقة انه لشيء محزن أن يتحدث كبار المسئولين في الدولة، ليل نهار، عن الإصلاح الديمقراطي ثم يتركون صغار المسئولين وكتائب المنافقين والانتهازيين وترزية القوانين ضعاف الحرفة والموهبة، يعيثون فساداً ويعرقلون كل خطوة ايجابية بذرائع سطحية هشة!.
وها هي 10 سنوات تقريباً، مرت منذ أن تقدم نادي القضاة بمشروع قانون لإصلاح الهيئات القضائية، وتحقيق استقلالها، مثلما دخلت علينا السنة الثالثة منذ أعلن الرئيس حسني مبارك إلغاء عقوبات الحبس في قضايا الرأي والنشر، إلا أن الواقع يشهد أن الملفات السرية في الادراج الخفية، ابتلعت هذا وذاك عن عمد وسوء نية، وكانما المطلوب هو زيادة تأزيم العلاقات «المأزومة أصلاً» بين الدولة وهيئتين على هذه الدرجة من الخطورة والتأثير، وهما الصحافة والقضاء.
وها هو التأزيم المتعمد يؤتي ثماره الخبيثة وتتعقد العلاقات وتغلي الهيئتان بالغضب وصولاً للتصعيد المبرمج، ابتداء بالوقفات الاحتجاجية للقضاة ثم للصحافيين في عرض الشارع في سوابق نادرة!
وعلى رغم ايماني بأهمية الخطوات الإصلاحية الأخرى، في المسار الديمقراطي المرغوب، مثل التعديل الدستوري وإطلاق الحريات العامة، واستقلال السلطات الثلاث، وإلغاء حال الطوارئ وباقي المنظومة القانونية الاستثنائية، فإنني اعطي الأولوية لتحقيق استقلال الصحافة والقضاء، فهما جناحا الديمقراطية الحقة، إذ تبقى حرية الرأي والتعبير والصحافة من ناحية، واستقلال القضاء النزيه من ناحية أخرى، أبرز ملامح الحكم الصالح الرشيد في أي مكان أو زمان.
ولأنهما معاً يشكلان رأس الحربة، في مواجهة تحالف الفساد والاستبداد، فإن هذا التحالف الشرس يقاتل معركة أكثر شراسة، ضد حريتهما واستقلالهما، لأنه يدرك أن الصحافة الحرة ستكشف بؤر الفساد وقوى الاستبداد وأن القضاء العادل المستقل سيتولى مسئولية المحاسبة القانونية والمساءلة الكاشفة على الدوام لهذا السوس الذي ينخر في خلايا المجتمع!.
وها نحن نشهد كيف أن الجهود التي تبذلها الصحافة، على رغم القيود لفضح الفساد وتعرية بؤر الاستبداد ودفعها دفعاً لساحات القضاء، تواجه بحملة عنيفة تهاجم الصحافة والقضاء معاً وتطالب بشعار خادع «تقنين الحرية» لضبط أداء الصحافة والحد من تهور الصحافيين»، أي باختصار إبقاء القيود والضغوط الشديدة المفروضة على حرية الصحافة والرأي وعرقلة الإقدام على إصلاح تشريعي حقيقي يطلق هذه الحرية، في إطار من المسئولية القانونية والمهنية والأخلاقية، المتعارف عليها في العالم كله.
وكلما زادت مطالبة الصحافيين والقضاة تحديداً، بتحريرهم من الأسر البيروقراطي والتحكم الإداري، واجهتهم ضغوط عاتية وحملات ضد حرية الصحافة واستقلال القضاء، وللأسف فإن معظم هذه الضغوط والحملات تديرها نخبة معادية للحرية، مازالت تعشش في ثنايا النظام وتنافق الحكام. وتدعي على الصحافيين والقضاة بالباطل، وصولاً إلى اتهامهم، مثلاً، بشبهة الخيانة الوطنية، لاتصالهم بمنظمات أجنبية هبت لمساندة مطالبهم العادلة.
وعلى رغم أنني ضد كل أنواع التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية، فإن رفع تهمة فادحة، مثل الخيانة في وجه كل من يقول رأيا مختلفاً أو يمشي في طريق مغاير أو يتمرد على موقف سياسي، إنما يمثل كارثة بمعنى الكلمة، هدفها قطع الألسنة وإخراس الأصوات وترويع الديمقراطيين الحقيقيين لإبقاء الأوضاع المتردية على حالها من التدهور.
ولعل أكثر ما يحزن، هو ما نشاهده ونلحظه هذه الأيام من جهود حثيثة لاختراق الصحافيين والقضاة تحديداً، وتفتيت وحدتهم وتقسيم صفوفهم ما بين الداعين إلى الحرية والاستقلال ايماناً بمبدأ سليم، وبين المعارضين لذلك الأقرب إلى تحالف الفساد والاستبداد، المعادي أصلا لكل القيم الديمقراطية، وانظر الخلافات الحادة والتقسيمات الجديدة، بين نادي القضاة والمجلس الأعلى لقضاة وجماعة رؤساء محاكم الاستئناف على سبيل المثال، وكلها خلافات ناتجة عن الاختراق وتقسيمات هدفها اجهاض الحركة الإصلاحية في القضاء!
والأمر لا يقل خطورة في الصحافة، إذ تجرى الآن معارك عنيفة الأسلوب حادة الألفاظ، يتدنى بعضها إلى درجة السوقية والابتذال الجارح للحياء الفاضح للقلوب المريضة والعقول المسطحة والأفكار الرخيصة. وللأسف، فإن ظواهر التجاوزات «الحرب الأهلية الصحافية» التي نعايش بعض تجلياتها السلبية الآن، تنعكس بالضرورة على سمعة الصحافة والصحافيين ككل، مثلما تنعكس على الرأي العام الذي شعر بالمرارة، من جراء التدهور المهني والأخلاقي الذي أصاب بعض صحافته، على أيدي قلة ممن امسكوا بالقلم فأخذتهم العزة بالإثم.
لكن الاخطر أن أعداء حرية الصحافة هم الأكثر سروراً وحبوراً، من مثل هذه المعارك الصحافية المتردية فإذا بهم يأخذونها مبرراً وذريعة جاهزة لعرقلة إطلاق حرية الصحافة، ولتعويق الإصلاح القانوني اللازم لإلغاء عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر، وباقي العقوبات السالبة للحرية في القوانين الأخرى المتراكمة، ثم يقولون جهاراً نهاراً، إذا كان الصحافيون يكتبون ويفعلون وذلك الآن في ظل القوانين المقيدة فكيف سيفعلون وماذا سيقولون لو اطلقت حرية الرأي والتعبير!
وأظن أن اشعال المعارك الكلامية والخلافات الجانبية على صفحات بعض الصحف، تهوراً في بعض الحالات نحو الخروج عن التقاليد المهنية والأخلاقية، بل ظلماً لمفهوم حرية الرأي والتعبير، واعتداء عليها، انما يقدم سلاحاً جاهزاً وباتراً، لأعداء حرية الصحافة في معاركهم الشرسة دفاعاً عن الفساد والاستبداد، وبالمقابل يمثل إنذاراً في شديد اللهجة للكتاب والصحافيين جميعاً، أن عليهم أن يحولوا بين هدفهم الرئيسي وهو إطلاق حرية الصحافة والرأي، ويين هذا الخروج عن التقاليد، والاعتداء على حرية التعبير، وبالتالي فإن على نقابة الصحافيين أن تمارس دورها الحقيقي في تطبيق ميثاق الشرف على الكبير قبل الصغير الآن قبل ان يفلت الزمام ويقع المحظور.
والمحظور الذي نعنيه هم ما نلمح بعض مؤشراته المخادعة هذه الأيام، حين تسمع وتقرأ لطلائع المبررين المفسرين، يقولون بلسان حلو وعبارات هادئة، إنه «يحب الموازنة بين حرية الصحافة وحرية المجتمع»، وانه يجب وضع ضوابط قانونية «عقوبات» رادعة حتى لا يعتدي الصحافيون والكتاب على حريات باقي المواطنين وينتهكوا خصوصياتهم الشخصية.
والخديعة المخاتلة، هنا تريد اصطناع التناقض بين حرية الصحافة وحرية المجتمع... حرية الصحافيين وحرية باقي المواطنين وهذه محاولة بائسة وتعيسة، إن انطلت على بعض السذج فهي لا تنطلي على قوى المجتمع الحية، التي تدرك جيداً أن حرية الصحافة والرأي والتعبير، هي حرية لكل المجتمع بأفراده وقواه وفئاته المتعددة وليست ميزة للعدد المحدود من الصحافيين والكتاب، مثلما تدرك المطالبة بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر، لا تخص الصحافيين وحدهم أيضاً، لكنها تشمل كل المواطنين، ابتداء من المواطن الذي يصرخ في الشارع معترضاً أو الذي يرسل برقية إلى مسئول محتجاً، أو يبعث برسالة لبريد القراء، يبث فيها شكواه وينفس عن همه الثقيل الكاتم على صدره.
ولذلك قلنا من البداية، إن معركة الصحافة مثل معركة استقلال القضاء هي معركة تحرير الوطن من قيوده!
خير الكلام: حديث شريف:
«أفضل الجهاد، كلمة حق عند سلطان جائر»
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1314 - الثلثاء 11 أبريل 2006م الموافق 12 ربيع الاول 1427هـ