ليس على اليسار أن يكون بمنأى عن دعوات المراجعة والتجديد المتصاعدة هذه الأيام، بقوة، على مستوى الايديولوجيات الكبيرة عموماً.
وهي - أي هذه الدعوات - وإن بدت موجهة بتركيز إلى الايديولوجية الإسلامية، إلا أنها لا يجب أن تعفي الايديولوجيات الأخرى، حتى التقدمية منها، عن التفكير في نفسها، وإعادة قراءة أوراقها الخاصة، قراءة تصلها بزمنها الحاضر وتخلصها من أسباب إخفاقاتها التي أدت إلى انحسار تأثيرها وتمثيلها شعبياً وجماهيرياً.
وأجدني هنا معنياً باليسار تحديداً، كوني أنتمي لجمعية يسارية، وأعتقد، أن حل جملة المشكلات التي يواجهها، إنما يأتي بواسطة مراجعة «مؤلمة»، يعيد عبرها مراجعة أصوله، لا للفكاك منها أو تمييعها أو الانسلاخ من هويته، إنما من أجل إعادة الوهج له، لا بنسخته الماضية، إنما بما يصله بزمنه المعاصر. تماماً كما فعل اليسار في أوروبا الغربية، أو في أميركا الجنوبية.
القوى اليسارية هي أكثر القوى انتقاداً للإسلاميين، بسبب الجمود الفكري وهيمنة الجانب الأرثوذكسي على المفاهيم التي يعبرون عنها ويعبئون بها الأتباع، لكن لنعترف، أن بعض الإسلاميين غدوا يهجسون بل يجاهرون بهذا الكلام، فمحاولات عبدالكريم سروش ومجتهد شبستري غدت تفرض حضورها في إيران، أو حتى عربياً، وكلها تصب في هذا المجال: النقد وإعادة البناء لتجديد النظرية الإسلامية. لكن ماذا عنا نحن؟ ماذا عن اليسار الذي كان جريئاً وسباقاً في مجال الفكر والمفاهيمية؟ هل يمكننا اليوم إعادة الاعتبار إلى مهدي عامل وحسين مروة من خلال خلق مهدي عامل جديد ومروة جديد؟
أسأل هذه الأسئلة، لأنني افترض، أن قوى اليسار، هي الأكثر جرأة ومراساً في مسائل النقد، وهو افتراض لا يعبر عن مركزية إثنية، تتوج اليسار (أباً) أو (رباً)، وإنما عن اعتبارات عدة لها صلة بتاريخية الفكرة اليسارية. قد يستغرب بعض الإخوة الرفاق لهذا الطرح، والذين اطمأنوا إلى أن مشكلة اليسار هي ذات طباع سياسي، وتتعلق بهيمنة الرمز والجمهور الديني، وأن هذه الهيمنة، تنشأ، فتكبر، فتتضخم، ثم تشيخ وتتلاشى، ولن يلبث اليسار ويعود إلى وهجه. فهذا هو منطق التاريخ، ولكن ذلك يجب ألا يجعلنا مطمئنين، نعم يمكننا أن نعقد المستقبل على اليسار، ولكن فقط، في حال تنبه لمسألة النقد والتحديث. إن ذلك وحده القادر على إعادة بعث الفكرة اليسارية وتجسير الهوة بينها وبين الجمهور.
بحرينياً، وبعد خروج التنظيمات اليسارية إلى العمل العلني وتشكلها في جمعيتي المنبر التقدمي والعمل الديمقراطي (وعد)، يمكن القول إن النخب لم تستطع فتح هذا الملف ومواجهة حقيقة ضرورة تحديث نفسها. ولكن أتى توقيت عملية المراجعة بصورة دقيقة، وعلى كل الأصعدة، إذ تطول هذه العملية كل البنى الفكرية والتنظيمية. لقد تأخر اليسار البحريني كثيراً في تقديم أطروحة نقدية خاصة به تنتشله من مآلاته الموجعة، واكتفى بالآمال، وما من شك فإن ذلك يحتم عليه التفكير في أسس الحلم عنده، وأن يقبض على الواقع كما هو.
أخيراً، ما لم يسرع اليسار في إنجاز هذه العملية، وظل يقتات على أحلام بعض اليساريين، في ظل صعود القوى اليمينية وتغير الموازين في العالم، فإنه قد حكم على نفسه بالاندثار
العدد 1313 - الإثنين 10 أبريل 2006م الموافق 11 ربيع الاول 1427هـ