في مقدمته الشهيرة تناول العلامة ابن خلدون حياة الدول وتقلبها من طورٍ إلى طور، من فتوةٍ وشباب، إلى الانحدار والشيخوخة والسقوط، حين يسيطر عليها حكامٌ لا يعرفون معنى للمسئولية القومية والتاريخية، ويتعيشون على الفتن والمؤامرات.
والأفراد كالدول، يشيخون ويهرمون وتصدر منهم بعض التخاريف. وهو الطور الذي نتعوّذ منه في لهجتنا الخليجية: «الكبر شين». من هنا أدخلت أنظمة العمل الحديثة قوانين «التقاعد»، ليتنحى المرء عن موقعه قبل دخوله مرحلة التخريف، حفظاً لماء وجهه وكرامته، ولتتاح فرصة العمل للأجيال الجديدة. أما في بعض «الجمهوريات»، فلا ينحّي المتقاعدين إلا عزرائيل! وعلى الشعوب والمنطقة بأسرها تحمّل تبعات ونتائج وكوارث مرحلة التخريف!
قبل عام، خرج علينا حاكمٌ عربيٌ بنظرية «الهلال الشيعي»، ملتقطاً الخيط من أحد مراكز الدراسات اليهودية في الولايات المتحدة، وأخذ يطبّل لها عشّاق طاغية العراق صدام، إذ فتح لهم التطبيل باب «الهبات» والعطايا من بعض العواصم، والسب والشتائم لآخرين. واليوم تفاجئنا نظرية «ولاء الشيعة في العالم لإيران وليس لدولهم»! ولا أدري، لماذا تحرّز الشيخ في «فتواه» ولم يقل «كلهم»، فيريح نفسه ويريح المحللين السياسيين! أليس شخصاً عبقرياً واثقاً من نفسه ونظرياته... وهو الذي لا يوجد منافسٌ له على الرئاسة... منذ أن «أتته الرئاسةُ منقادةً»!
وإذا كان من حقّ أيّ إنسان أن يعبّر عن رأيه، إلا انه ليس من حق أحدٍ، كائناً من كان، أن يتهم مجاميع بشرية كبيرة من أبناء الخليج، بالولاء لأية دولة أجنبية، وخصوصاً أن هؤلاء «المتهمين»، من أقدم شعوب المنطقة، لم يأتوا مهاجرين في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، انما تمتد جذورهم قرونا حتى أيام الفتوحات الإسلامية الأولى، وبعضهم من أحفاد المنذر بن ساوى والعلاء الحضرمي.
ليكن شيعة العراق 65 في المئة، وليكن هناك شيعةٌ في دول الخليج وبنسب كبيرة، ما الذي يغضبه؟ ما الذي يستفزه؟ هذه تركيبتنا البشرية منذ قرون، فهل المطلوب حملة تطهير عرقي ومذهبي حتى يصبح الخليج من لونٍ مذهبيٍّ واحدٍ ليستريح ضميره «العروبي» النقي؟
إن اتهام هؤلاء العرب الأقحاح في ولائهم لأوطانهم، كلامٌ ساقطٌ لا يحتاج أصلاً إلى ردّ أو جدال، لأنه محض هراء، فضلاً عما يكشفه من عقلية استبدادية طالبانية تعطي نفسها صلاحية فرز العالم إلى فسطاطين... والخير المطلق، حيث الإخلاص والشرف والبطولة والوطنية التي عرفناها في حروب العرب ضد «إسرائيل»!
على أن الفساطيط معروفة ليس لشعوب الخليج المسالمة المتحابة، بل حتى لشعوب جمهوريات وممالك الخوف العربية، حاملة لواء الفتن في هذا العصر الطائفي البغيض. اللعب بهذه النار لن يخدع عربياً من المغرب أو المشرق، خصوصاً بعد أن جاهرت هذه الأنظمة الشائخة بإجراء مناوراتٍ عسكريةٍ مع «إسرائيل» في البحر المتوسط، من دون حياء أو خجل. وعندما تدخل الأنظمة الهرمة طور التخريف، (كما أشار العلامة ابن خلدون) تبحث عن كبش فداء تلقي عليه تبعات خمسين عاماً من الهزائم والمذلة والاستبداد والتبعية المهينة للأجنبي.
جمهوريات وممالك الخوف العربية، التي تعيش على الصدقات الأميركية، تعرف شعوبها جيداً حجّاج البيت الأبيض، وتعرف من لايزالون يقاومون المد الاستعماري الجديد خارج «أكذوبة» الفسطاطين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1313 - الإثنين 10 أبريل 2006م الموافق 11 ربيع الاول 1427هـ