كثيرة من الأمراض السياسية منتشرة بيننا، لكننا نخاف من أن نكتشف المرض مخافة الاتهام بالزندقة السياسية أو المروق من دين الحزب أو السلطة. الذي أفهمه أن السياسة ليست مكان اصطياف أو مركزا للتزلق على الجليد على حد تعبير المرحوم نزار قباني. إذاً كي يتطور وضع الأمة الإسلامية لا بد من فرض فريضة النقد الحضاري المتوازن المعتدل لترشيد المجتمع بما فيه خير له.
بداية، لا بد من التنويه إلى بعض الأمور: أنا مؤمن إيمانا كليا أن الغرب أكثر تطورا من المجتمعات الإسلامية وهذه قناعتي ولا أحب أن أكون نرجسيا متخما بأمجاد الماضي من الخلافة العباسية إذ يعتبرها بعض المؤرخين العصر الذهبي لازدهار العلم والترجمة إلى عصر الحكم العثماني وسيطرة الخلافة على الاندلس وغيرها إلى يومنا هذا، إذ أصبحنا كمجتمعات لا نجيد إلا فن التظاهرات والصراخ، حتى في الموقف من الدنمارك أعتقد أن موقف الداعية عمرو خالد أكثر واقعية من موقف الشيخ القرضاوي في فتحه لقنوات الحوار مع الدنمارك.
ثقافة المقاطعة أصبحت ثقافة غير مجدية. المظاهرات في العالم العربي أصبحت مثل القناني الغازية تثور ثم تهمد، ولك أن تمر على كل المنتجات الأميركية اليوم تجدها مكدسة في بيوت متظاهري الأمس، فضلا عن الشركات التي كانت تتسابق أمام الجمهور لتظهر له أنها أول (المقاطعين)، ثم بعد أشهر تجد المنتجات ذاتها مكدسة على رفوف مطاعم ومحلات هذه الشركات. نحن امة تأخذنا العاطفة وليس العقل، يستهوينا العقل الجمعي بشكل ملفت ثم يتلاشى بخار الغضب بعد انتهاء اللقاء الجماهيري.
نحن بحاجة إلى رؤية نقدية وعقل نقدي لمسلماتنا السياسية، نحتاج الى امتلاك جرأة نقد الواقع - وبحضارة بلا تجريح - فلا مقدسات في الحوار الثقافي والسياسي والاجتماعي. لا يوجد «تابو» سياسي فوق النقد. نحن بحاجة إلى برلمان شعبي أيضاً يمارس النقد للـ (وزراء الشعبيين)، إذا صح التعبير، ولأداء السياسيين، وللخطاب الموجود ويجب عدم التحسس في ذلك، ففي النقد اثراء معرفي للمجتمع والأمة.
قبل أيام أرسل لي شاب يقول لي: هل تقبل أن ينتقدك الآخرون؟ قلت له: يا سيدي الفاضل أنا الآن 5 سنوات والكثير من الذين اختلف معهم في الرأي لا في الحب، ينتقدونني ولم أتعصب ولم أغضب ولم أرد في مقال ولا بيان لأنه من حق الإنسان أن ينتقد، بل أصبحت مادة دسمة للنقد، وكنت أقول: النقد الموضوعي يقوي الانسان وغير الموضوعي يتلاشى كالبخار. المهم ان يتعلم الناس ألا يسلموا العقل لثلاجة أحد.
يجب أن نمتلك جرأة النقد من دون وضع التبريرات والمساحيق، وأن يكون لنا خطاب واحد نصارح به الناس. هناك نقد يملؤك رفسا وعضا وضربا - كما حدث للسيدفضل الله - لكنه زاده قوة ومتانة. هل يوجد أكبر وأعظم من اتهامه بأنه «ضال مضل»، وعلى رغم ذلك لم تؤثر فيه لأن الطعنات هي الوجه الآخر للقبلات. إذاً يجب أن نركز الحوار في المجتمع ويجب أن نبدي وجهة نظرنا - بلاخوف - تجاه أية قضية سياسية حتى بالنسبة لقانون الأحوال الشخصية.
قد تكون آرائي خاطئة، لكني لا أدعي لها العصمة وهذا ما ينبغي انتهاجه لكل الآراء الموجودة. بلغ الهوس الديني إلى أن يسألني أحد الشباب: لماذا تستشهد بمواقف غاندي أو مارتن لوثر أو الراهبة تريزا إلخ، وهم غير مسلمين؟ أجبته: ولماذا تستخدم الكهرباء الذي اكتشفها اديسون؟ ولماذا تستخدم الانترنت فهل الذي اكتشفه خميس بن جمعة؟ يا سيدي الفاضل يجب ان تخففوا من نرجسيتنا، وادعاء اننا الاكمل والأفضل في البشرية، هذا هراء. هل تعلم أن اختراع الدولة كان تتويجا لولادة المجتمع الانساني بعد بزوغ ما لا يقل عن 30 حضارة من رحم 600 مجتمع بدوي؟ هل نلقي بكل هذه الحضارات في البحر؟
دعني اطرح لك موقفا لغاندي ذكره المفكر الوسطي الكبير خالص جلبي في كتابه «الإسلام والعنف»، ص 58، دار الكرمل: يروى عن غاندي أن أعمال العنف عندما اشتدت في كلكتا بين المسلمين والهندوس واحتار السياسيون في ضبطها ذهب فاعتكف هناك في بيت مسلم وأعلن الصيام حتى الموت أو تتوقف أعمال العنف، وعندما انزاحت نوبة الجنون عن الناس وتوقف الغوغاء عن القتل جاءه هندوسي يقول: إن المسلمين قتلوا ابني، فقال غاندي: هل أدلك على عمل يدخلك الجنة؟ أن تربي ولدا مسلما قتل والداه وأن تحرص أن ينشأ مسلما كما تمنى له ذلك والداه»
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1312 - الأحد 09 أبريل 2006م الموافق 10 ربيع الاول 1427هـ