العدد 1312 - الأحد 09 أبريل 2006م الموافق 10 ربيع الاول 1427هـ

مشاهد من مدينة تبكي الأحياء

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

كل المدن العربية تتشابه، جميعها تئن وتبعث فيك الرغبة للهجرة بعيداً عن أزقتها وحكاياتها، كلها تشعرك باستغباء (من غباء) الشعوب، بسذاجتها، كلها تبث في دواخلك شعوراً محموماً لأن تهرب ولا تكون شاهداً على عصر زوالها وانحدارها، وعلى المآسي والكوارث البشرية والإنسانية، ألا تكون متواطئا مع فشل الأنظمة في إنقاذ شعوبها من المرض والفقر والعوز وإهدار الكرامة. كلها مدن تبكي وتندب حظها العاثر لوقوعها بين براثن لم تحبها ولم ترحمها، لا بل جعلتها نموذجاً صارخاً للجمود واحتراف الكسل والنهب والكذب وتزوير التاريخ. يا لها من مدن تدمي وتلعق دمها مع مظاهر التخلف والجهل والظلام المحيط في أرجائها.

زرت عاصمة «أم الدنيا» أثناء حرب الخليج، وقتها كان البال منشغلاً بالحرب الدائرة وأمور صغيرة أخرى تافهة، لذلك كانت المدينة في عيوني أشبه بأنوار مضيئة وابتسامة قلقة وفسحة للنفس مؤقتة من ضيق المكان والزمن الذي نعيش. عدت إليها ثانية في منتصف التسعينات، كما زرتها منذ أسابيع.

«القاهرة» هي كما عرفتها لم تتغير، إلفة وبساطة إلا أن المباني ازدادت تهالكها واتسعت الشوارع وزاد النزلاء فيها على الأرصفة. مشهد «النيل»، يبعث فيك شعورا غريبا وحزينا لا يتجاوز أفكارك المسبقة عنه ولا عن تاريخ مصر العظيم. معه وبين ثناياه تنتشر مظاهر البؤس أين ما ذهبت وحيثما وليت وجهك. أناس المدينة مثل بقية أخوتهم في المدن العربية، غاضبون وحانقون، بدءا من سائق التاكسي الذي يقلك بتكشيرة إلى موظف الاستقبال في المطار والفندق إلى أصحاب المحلات التجارية والدكاكين. غالبيتهم يتسلون أثناء العمل بالاستماع إلى آيات من الذكر الحكيم والاستغفار الذي لا يتوقف. ربما تتملكهم مشاعر من الخوف والذنب والرجاء، فهي الملاذ والمنقذ من شر زمنهم الرديء. البضائع المعروضة بكثرة لا مجال لشرائها إلا بالجدل والمفاوضة على الأسعار، على رغم رخصها ويسر حال الزائرين. تبدأ المساومات بين البائع والزبون حتى تنتهي بخسارة أحدهما أو تعادل الطرفين. لا أحد يطلب منك البقشيش، لكن العيون تفصح عن الرغبات، وجميع من في المدينة في خدمة السائح، لأن الخدمة فرض واجب. الجميع في خدمتك ولا أحد يرغب في النظر إلى وجهك أو الاستماع إليك، لأن الجميع لا وقت عنده للتوقف عن الحديث المشحون بالقصص والروايات لأمور صغيرة مترابطة في سلسلة لا تنتهي. فالوقت لا قيمة له، وإن أدرت الظهر فربما يتسنى لك الاستماع إلى شتمك بكل الموبقات التي ارتكبتها أو لم ترتكبها، والسبب لأن الجميع غاضب ومقهور وينفث ما بداخله من غبار وشوائب، لا تستغرب إن حملت مسئولية ذلك الغضب من حيث تدري أو لا تدري.

الذين قتلوا ضحكة المصريين

من بين خيوط الأضواء الخافتة الناعسة تتحرك المدينة جيئة وذهاباً عبر أضوائها وعرباتها التي تفتقد غالبيتها لأبسط مقومات السلامة، فالإنسان لم يعد مهماً وكل أمر يتعلق بسلامته هو الآخر غير مهم. المدينة تدور حول نفسها في حركة مجنونة تماماً مثل كل المدن العربية، إذ لا يقيم النظام في ممراتها أو في إشاراتها الضوئية فالحمراء والصفراء والخضراء كلها سيان، لونها واحد! والجميع يسابق الزمن للوصول إلى المستقر إذ يلتقي الجميع، ويتلاشي الخيط الضبابي ويتحول المثقف والمتعلم إلى عتبة من يسكن الشوارع نفسها ولا يجيد فك الحروف الأبجدية. السؤال الذي يدق في رأسي كالمطرقة: ماذا فعلتموه بهذه الشعوب حتى فقدت روح الحياة المفعمة بالنكتة والابتسامة واستعاضت عوضاً عنها بالغضب والحزن والتكشيرة؟

مررت خلال زيارتي بناصية في شارع فرعي في ميدان التحرير أوجعتني امرأة عجوز جالسة على كنبة بالية قبالة النيل تصف عليها السكاكر والدخان الذي تبيعه في الهواء الطلق أثناء النهار، ثم تتحول الكنبة إلى مأوى ومسكن ومنام بعد أن يحل الظلام وتغلق أبواب القلب ويتحول الفرح والمتعة إلى حزن وغضب وغصة وآهة قد تسرع بها للرحيل إلى عالم الأموات. هل تحدثنا عن المتعة، عن ابتسامة وفرح؟ قطعاً في هذه الناصية وعلى الكنبة ذاتها لا مكان لكل لذلك، لا وجود له في قلب الزحام والمعاناة والفقر المتجدد والقلق من المستقبل المجهول. لا وجود لذلك الذي يسمى وطناً، لذلك الذي يتحدثون ليل نهار باسمه ويفرشون أرضه للبيع والتزوير في كل بورصات العالم، فالوطن يكون حيث يوجد أناس يحبونه كما يحبون أناسه، ويتوغلون في جسده عشقاً. خرافة هذه أو أحجية تلك التي نتحدث عنها، أم حلم مزعج لا وجود له. إننا نتحدث عن مدن المفارقات بين التاريخ والحاضر، فالفراعنة الذين هم أحياء في الذكرى وعند ربهم يرزقون، هم ذاتهم اليوم الذين من أجلهم يقصد السياح أرض الكنانة لارتياد الأمكنة التي اجترحت المعجزات والعجائب، كم تحتاج الكنانة إلى فراعنة جدد يجترحون لها المعجزات ويحترمون الإنسان الذي هو الثروة والحياة، ولا يظلمون.

تحدث سائق التاكسي بثقة ورصانة وهو يعلم أنني خليجية، كان شجاعاً في رده على سؤال زميلي الطبيب الجزائري حينما سأله: هل يذهب السياح الخليجيون لزيارة الأهرامات وماذا يفعلون؟ رد قائلا: إنهم يختلفون تماماً عن الأجانب، إنهم على النقيض، فهم لا يحملون الكتب معهم ولا يسألون عن تاريخ المكان والزمان، الأجنبي يقطع آلاف الأميال ليسأل ويرغب بمعرفة المزيد عن تاريخنا، أما الخليجيون فهم يأتون ويذهبون لالتقاط صور لهم ولأبنائهم ولامتطاء عربات الخيول، يقولون إنها حجارة متكسرة ولا قيمة لها. إنهم يمضون جل الوقت في الأسواق والتسكع في المجمعات التجارية وأماكن الترفيه والألعاب، يشترون كل شيء وأي شيء وبأي ثمن، هم فقط يتسوقون ثم يتسوقون لأجل لا شيء على الإطلاق. ابتسمت، سألت في سري: هل كان يجانب الحقيقة؟ ذكره زميلي ثانية بأنني خليجية. قال: أعلم ذلك وهذا رأيي بصراحة وأنا أعتذر! قلت له: تحدث فسماع رأيك يهمني، بيد أنني سأقول رأيي فيما أشاهد وألاحظ وأعيش هنا.

وصلنا بوابة الفندق، وأصر على سماع رأيي، كنت مترددة وخجلة لكن الكلمات قفزت مني بتلقائية: ما ذكرته سليم مع الأسف، ولكنكم أيضاً تتحدثون كثيراً، كثيراً وفي كل شيء ولأجل لا شيء أحياناً. إنكم لا تتوقفون عن الحديث وبأصوات مرتفعة وغاضبة، لقد فقدتم حس الفكاهة، وأنا حزينة لأجلكم ومعكم! أبواق السيارات تزعق من الخلف، نزلت أسرع الخطى وأقدم اعتذاري عما قلته. تمتم قائلاً: لك حق، من المؤكد أن ما ذكرته أيضاً سليم!

القاهرة المقهورة

ثانية، سائقو الأجرة مؤشر دقيق على حال المدن العربية وأهلها، حسهم قوي ومعبر عما يدور في خفايا الأرض الغاضبة. كنا نودع المدينة في طريقنا للمطار، لم يتوقف السائق عن الدعاء لنا بالهداية والصراط المستقيم، كانت دعوته لوجه الله، أن ينجينا ويحرسنا من أي سوء، حتى عرج بنا فجأة في شوارع جانبية مغبرة فوجدنا أنفسنا وسط المدافن والترب إذ يتجاور الأحياء مع الأموات، ويتقاسمون المكان الذي يغطيه التراب والزبالة في بعض الأركان. إننا سياح، لكن السائق لا يدرك أي معنى، لذلك كان يلزمنا الخروج من عباءة الشعور بأننا سواح. لطالما شاهدت هذه الطرقات في الأفلام، مبان ومساجد طينية متهالكة من القدم، كأننا في زمن محمدعلي باشا. لو ظهر «الباشا» في هذا العصر هل ستصدق عيونه ما تشاهده بعد أحلامه بالنهضة لمصر وأهلها؟ تراب وطين في كل زاوية، وأناس يلهثون بجلابيبهم الرثة التي فقدت ألوانها الطبيعية. اعتذر السائق وطمأننا قائلا: أمر بكم في هذا الدرب تجنباً للازدحام فلا تستغربوا ولا تخافوا، وأنا أعتذر.

خمد السؤال الفضولي الذي راودني عن سبب مرورنا في هذا الطريق، بلعته لأنني لم أجرؤ على السؤال! أكمل حديثه: هذه بلد العجائب والحضارات، كل شيء تجدونه في هذه الأحياء الشعبية، الناس يعيشون مع الموتى، يأكلون ويشربون ويحزنون ويفرحون معهم طيلة الوقت، يحرسونهم بعد أن قاموا بتغسيلهم وتكفينهم ودفنهم! المشهد يذكرك بالموت، وربما يأخذك إليه. لا أدري لم استسلم الغاضبون منهم للقدر والحزن، كنت غائرة في صمتي، وحزينة وشاركني زميلي الجزائري اللحظة ذاتها، توقف الحديث والفحص والتحليل. لم يكن لكل ذلك من معنى حينما اكتشفنا المزيد من الحقيقة، فالنظرات مريضة وتشعر بالأسى، وصلنا المطار، لم أتفوه بكلمة للسائق غير «شكرا». ودعت زميلي، وأنا أفكر بألا أزور سريعاً أي أرض عربية غاضبة، فذلك يشعرني بالحزن والغضب، فالفرح والمتعة تغيب حينما نطرق أبواب مدن البؤس والفاقة، مدن يرثى لحالها وحال أحيائها الذين يعيشون بين الأموات ويستعجلون المضي إليهم، إلى الآخرة حيث درب الخلاص الوحيد من الألم والهموم الثقيلة والمآسي والدموع.

ما أقسى أن يكون الوطن ضيقاً بحدود القبور، والمدينة حينما تتنكر لأبنائها، أينك يا عبدالناصر، ترى لو كنت حاضراً هل ستحزن وتبكي كما نفعل ونحن نلج ونغادر أية مدينة من مدن الحزن التي تشكل منها حلمك؟ أينك من حزن وغضب شعبك؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1312 - الأحد 09 أبريل 2006م الموافق 10 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً