وفقا لبيانات هيئة الأمم المتحدة، هناك 18 مليون إفريقي في طريقهم إلى الشمال الغني. بدأ زحف الفقراء نحو أوروبا، وهذا ما تنبأ به في نوفمبر/ تشرين الثاني 1984 جاك شيراك حين قال: «بعد 30 سنة لن يصبح بوسع أحد منع سكان الجنوب من الهجرة إلى الشمال». حينها لم يكن شيراك رئيسا لفرنسا بل زعيما للحزب الديغولي. وتحدث عن الموضوع نفسه الرئيس الجزائري آنذاك هواري بومدين بوضوح أشمل فقال: «سيهاجر ملايين البشر من الجزء الجنوبي الفقير لهدف تقاسم حياة رغيدة مع سكان الشمال». فيما حذر رئيس السنغال عبدو ضيوف الأوروبيين بقوله: «إنكم تعيشون في ظل خطر زحف الفقراء الأفارقة عليكم، الذين سيأتونكم في صورة أمواج بشرية».
ويحاول الأوروبيون منذ وقت وبعيدا عن الأنظار بناء حواجز تمنع قدوم الأمواج البشرية من إفريقيا بدءا من مضيق جبل طارق وصولا إلى ميناء لامبيدوسا في إيطاليا. ووجد المغرب نفسه استخدامه جسر عبور يقصده النازحون الأفارقة إلى أوروبا. وتوصل الاتحاد الأوروبي إلى عقد اتفاقات مع عدد من بلدان شمال إفريقيا، بدءا بالمغرب، تسهل إعادة النازحين للأراضي المغربية. وهو القرار الذي تعرض لانتقادات شديدة من قبل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي توجه اللوم للحكومة الاسبانية لأنها ترفض منح النازحين فرصة تقديم طلب اللجوء لواحدة من دول الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، يقدم الأوروبيون للمغرب مبالغ لتمويل بناء الأسوار وشراء معدات لحماية حدود أوروبا من النازحين. وفي هذا السياق، حصل المغرب على 40 مليون يورو مطلع الخريف. وفي العام الماضي أعاد المغرب 25 لاجئا إلى قلب إفريقيا عبر الجو بعد نهاية رحلة عذاب طويلة، منهم من قضى أكثر من عام في الطريق إلى أوروبا.
يصل الجزء الأكبر من النازحين إلى المغرب عن طريق الحدود الجزائرية، إذ هناك نحو نصف مليون إفريقي داخل الحدود الجزائرية في طريقهم إلى الشمال الغني وفق مصادر جزائرية. ويضطر هؤلاء إلى متابعة السفر الشاق عبر الصحراء إلى المغرب غير عابئين بحياتهم، حتى أصبحت الطرق التي يستخدمها النازحون معروفة. فهم يأتون من السنغال وساحل العاج وغانا ونيجيريا ودول أخرى في غرب إفريقيا ويجتمعون في أغاديز في النيجر. ومن هناك يتوجهون إلى الجزائر. ووفقا لبيانات المجلس الأوروبي الذي أجرى تحقيقات ميدانية عن ظاهرة هجرة الأفارقة الجديدة إلى أوروبا، تحصل عصابات تهريب الأفراد على مبلغ ستة آلاف يورو من كل شخص لقاء تهريبه إلى أوروبا، بما في ذلك توفير أوراق ثبوتية مزورة. طبعاً، ليس جميع اللاجئين يملكون مثل هذا المبلغ الخيالي بالنسبة إلى المواطنين الأفارقة البائسين، لكن بعض القرى والقبائل تقوم بجمع مبلغ من المال لتأمين سفر أحد شباب القرية أو القبيلة إلى أوروبا والعمل ليقوم بإرسال مبلغ شهري يجري تقاسمه لضمان العيش. وجاء في تقرير المجلس الأوروبي أن قيمة تهريب الفرد من مالطا إلى أوروبا تبلغ 800 يورو.
من هنا أصبحت عصابات الجريمة المنظمة تهتم أكثر بتهريب الأفراد، وهو ما يضمن حصولها على أرباح أكثر مما تحققه من وراء الاتجار بالمخدرات وتهريب السلاح. وعرضت محطة التلفزيون الألمانية الفرنسية ETRA مقابلة مع أحد النازحين قال إنه قطع المسافة من الجنوب الفقير إلى حدود المغرب خلال عامين، وأكد أنه يفضل الموت على العودة إلى بلده وقبيلته مهزوما خاوي الوفاض. وأضاف: «لا أحد منكم يعرف حجم الصعوبات التي صادفتها في مشواري الشاق والطويل، وأنا على استعداد للموت قبل أن يعيدوني إلى بلدي».
الهجرة تجري في الحقيقة منذ سنوات، لكن الفارق الآن هو أن الرأي العام في أوروبا والعالم بدأ يشعر بآلام الأفارقة، في الوقت الذي يخشى السيناريو الأسوأ الذي وضعته الأمم المتحدة: «18 مليون إفريقي في طريقهم إلى أوروبا». فمنذ سنوات اعتاد العالم على صور جثث شبان وشابات من الجنوب الفقير لفظتها الأمواج وتركتها على شواطئ اسبانيا وإيطاليا واليونان، فيما أخذت وسائل الإعلام تهتم بآلام الأفارقة وتنقل صور المآسي التي تجري في سبتة ومليلة بصورة خاصة. ففي كل يوم يعبر النازحون من أراضي المغرب إلى إسبانيا في محاولات يائسة، على أساس قناعة راسخة: «الموت ولا العودة إلى حياة الفقر».
ضابط في الشرطة الاسبانية اعترف بأنه يقوم بأصعب مهمة في حياته، إذ يعمل على إجبار الفقراء الذين غامروا بحياتهم للوصول إلى أوروبا، على العودة إلى مصير بائس، وهو ضد ما يفرضه عليه ضميره، لكنه ملزم بتطبيق القانون كما قال. الرسالة التي يحملها النازحون أن إفريقيا تتضور جوعا، وأن كل سياسات العالم فشلت في تخفيف آلامها، وأن أنظمتها فاسدة بحيث لم يعد هناك أمل يرتجى منها، بينما المعلقون هنا يتحدثون عن «هجوم إفريقي على أوروبا». وعلى رغم الصور المأسوية، من أن النازحين لا يرون أي حل لمستقبلهم غير العيش والعمل في أوروبا، وهم على استعداد للموت في هذا السبيل، فإن ما يحدث على مرأى من الجميع إنما هو مثال متواضع لمشكلة كبيرة. فالأفارقة فقدوا الأمل في حكوماتهم ومجتمعاتهم، وعزموا على الهجرة إلى الشمال الغني، سيرا على الأقدام، فهل يمكن تصور عدد الذين لا يصلون إلى نهاية الطريق؟ فهناك مئات الآلاف من الناس من الصومال ورواندا والكونغو وبوروندي، نزحوا بسبب النزاعات المسلحة في مناطقهم إلى كينيا. وهناك مليون نازح فروا من نظام رئيس زمبابوي روبرت موغابي إلى جمهورية جنوب إفريقيا وبوتسوانا، وآلاف السودانيين لجأوا إلى تشاد. حتى دولة غانا الصغيرة كتب عليها فتح أبوابها أمام آلاف الفارين من الحرب الأهلية في ليبيريا. كل هذه البلدان فقدت حكوماتها القدرة على مواجهة أمواج النازحين، وليست لديها وسائل ضمان الحدود أو إغلاق أبوابها في وجوه النازحين. إضافة إلى أعداد غير محددة من أولئك المهاجرين لغرض العمل. وعند مراجعة الأرقام يستغرب المرء، كيف تقيم إسبانيا والاتحاد الأوروبي الدنيا وتقعدها لأنه في العام 2004 حاول 54 ألف إفريقي دخول أراضيها عبر سبتة ومليلة.
إن مشكلات إفريقيا لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها، فالجنة بالنسبة إلى الأفارقة تقع على الطرف الآخر من المغرب: بدءا من إسبانيا. وفقا لتقرير هيئة الأمم المتحدة تساهم أعداد النازحين والمهاجرين الفارين من مناطق الفقر بصورة فعالة في مكافحة الفقر في بلدانهم أكثر من البلدان المانحة للمساعدات. إذ يقدر حجم الأموال التي يحولونها إلى عائلاتهم وقبائلهم في أنحاء العالم نحو 125 مليار يورو، وهذا الرقم هو ثلاثة أضعاف حجم المساعدات الإنمائية التي يقدمها الشمال الغني لدول الجنوب الفقير. إن الفقر في إفريقيا يكون أكبر بكثير لو توقف الذين نزحوا إلى أوروبا والولايات المتحدة عن دعم عائلاتهم. فعلى سبيل المثال: يجري تحويل مليار يورو سنويا إلى إثيوبيا، ويزيد حجم هذه الأموال في الصومال أربع مرات عن حجم موازنة الدولة. فليس من العجب أن يسعى الآباء والأمهات في نيجيريا والصومال والكونجو أو أنغولا، إلى إرسال أولادهم إلى أي مكان في أوروبا لأن في ذلك السبيل الوحيد لتحسين أوضاعهم الحياتية. وطالما هناك في إفريقيا من يفكر بهذه الطريقة، فلن يمنع النازحين سور فاصل أو أمواج عاتية أو رصاص حرس حدود لوقف زحف الفقراء
العدد 1311 - السبت 08 أبريل 2006م الموافق 09 ربيع الاول 1427هـ