كنت طالباً في كلية الآداب جامعة القاهرة في هذه السنة وقد أتيحت لي فرصة سانحة لا تعوض لزيارة هذا المصهر الضخم برفقة زملاء كرام من البحرين ومصر. إنه مصنع ومصهر عملاق واسع الأرجاء ويتميز بضخامة منشآته ويقع في كفر الحلو القريب من مدينة حلوان وكانت المقر الشتوي لاجتماع مجلس الوزراء المصري إبان العهد الملكي. كنا جميعاً أربعة طلاب وقد أقلتنا سيارة الزميل الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة الوزير السابق والمحامي حالياً والذي كان طالبا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. إنه من المصانع التي أقامتها الثورة المصرية ضمن خطتها الطموحة إلى التصنيع الثقيل وهو يستورد رذاذ الحديد الخام من مناجم أسوان التي تبعد عن القاهرة ساعات طويلة بالقطار. كان عبدالناصر يسعى إلى إقامة مشروع تنموي متكامل للخروج من اسار التبعية الأجنبية ومظاهر التخلف المختلفة هذا ما كان يردده جهاز الإعلام المصري الرسمي بصورة دائمة وخلق قطاع صناعي كبير إذا كان شعار عبدالناصر المدوي والذي تردده أجهزة الإعلام المصرية نهاراً جهاراً (ارفع رأسك يا أخي) وكان هدف ناصر بناء جمهورية العدالة الاجتماعية من مساواة وحقوق، إذ كان هناك شعار من الإبرة إلى الصاروخ. وقد ذكر الصحافي الإنجليزي ريتشارد طومسون أنه التقى رئيس الوزراء المصري جمال عبدالناصر العام 1954 في بيته بالقاهرة في إحدى الثكنات العسكرية يقول عنه إنه شخصية مرحة لكنها آمرة وبيته صغير وذو أثاث متقشف كان يتطلع إلى تقدم مصر وازدهارها وأضاف أن في صوت ناصر نبرة ود وصدق إلا أنه استدرك قائلاً إن التجربة الناصرية لم تحقق الديمقراطية المنشودة والتنمية واستقلال الإرادة الوطنية ولم تنجز تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو علمية. عبدالناصر كان يريد توفير متطلبات الشعب المصري اقتصاديا وإنمائيا وتحقيق السيادة الوطنية وبعيدا عن الهيمنة الاستعمارية بما فيها الثقافية والتصدي للغزو الفكري. كما دعا إلى نهوض قومي عربي ولم يتحقق ذلك إطلاقا لعدم وجود نهضة اقتصادية حقيقية قائمة على أسس مكينة وصحيحة.
ومن المعلوم أن شركة كروب الألمانية العملاقة ذات الشهرة العالمية هي التي أنشأت هذا المصنع. لفت نظري أمران مهمان أولهما أن المهندسين المصريين الذين التقيناهم كانوا في غاية الأناقة و(القيافة) في ملابسهم وقد نقشت على جيوب قمصانهم حروف أسمائهم الأولى بصورة جميلة وملفتة للنظر وقد درج كثير من المصريين ولاسيما الشباب على سلوك هذا. وكان في شارع فؤاد أو 26 يوليو متجر مشهور اسمه القاضي وحسين يبيع ويفصل أرقى وأجمل القمصان. وشعرت أننا في نزهة على كورنيش نهر النيل الذي أشرف على بنائه عبداللطيف البغدادي أحد قادة الثورة المصرية بعد أن أزال سور السفارة البريطانية المطل على نهر النيل والذي يقطع الكورنيش. ولسنا في مصنع ينفث الغازات وتعم أرجاءه أدخنة التلوث وعندما أبدينا دهشتنا بهذه الأناقة الزائدة وهذه المظاهر غير المقبولة والتي لا تتماشى وطبيعة العمل قالوا لنا إنهم يمثلون العلاقات العامة والتي تتطلب مثل هذا المظهر وقام أحدهما برفقتنا إلى عنابر المصهر إذ تنفث منه الأدخنة والغازات ووجدنا ثلاثة عمال فنيين من الألمان أمام فوهة المصهر وأنهم في منتصف الخمسين من أعمارهم إذ كانت ألسنة اللهب تطل من أفواه هذه المصاهر الضخمة إنها كرات من الحديد المصهور. وقد ذكرت الصحف المصرية بعد ذلك أن الرئيس عبدالناصر عندما نما إلى علمه ذلك ناشد الإدارة ضرورة الانضباط ومراعاة اللوائح المتعلقة بالعمل في هذه الميادين الصناعية ومعاقبة المقصرين. ومن الأمور التي ذكرتها الصحافة المصرية آنذاك أن عبدالناصر كان في جولة تفقدية لمنشآت جمارك الاسكندرية ولفت نظره وجود حاويات خشبية ضخمة تحتوي على آلات لصناعة الألبان وبسترتها وهي موجودة في العراء منذ سنتين. لقد اتضح أنه لا توجد الكميات المطلوبة من الألبان بسبب فقر الثروة الحيوانية من أبقار وجاموس في مصر. وهناك مثل بحريني دارج يقول لقد أعد الدواء قبل الفلعة.
كاتب وسفير بحريني سابق
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1311 - السبت 08 أبريل 2006م الموافق 09 ربيع الاول 1427هـ