يجمع العارفون بأحوال و«حاليات» الوضع الإيراني على أن «جعجعة» السلاح المتطور المسموعة في أعالي وأعماق المياه الخليجية الدافئة حديثاً من الجانب الإيراني ليست سوى رسالة صارمة للخصم التقليدي الذي يُصعّد هذه الأيام ضد طهران بأن الوضع لا يحتمل ارتكاب «أخطاء» إضافية إلى سلسلة آلاف الأخطاء التي ارتكبت في الجوار العراقي والتي اعترفت بها الدبلوماسية الأميركية حديثاً.
بمعنى آخر، فإن «عسكرة» الفضاء الدبلوماسي وأجواء الحوارات القائمة والمرتقبة من الجانب الأميركي كما يتسرب من مجموع التقارير الواردة إلى المنطقة، لن تكون ورقة ضغط باتجاه واحد لفرض ابتزاز طهران لتقديم تنازلات، بل إن بإمكان طهران أيضاً استخدام الأسلوب نفسه للوصول إلى النتائج نفسها لكن بالاتجاه المعاكس.
هذا بالإضافة إلى أن الذين يعرفون طبيعة النظام الإيراني جيداً، يعرفون تماماً أن هذا النظام القائمة مشروعيته على المفاهيم الدينية بإمكانه في لحظة تاريخية معينة أن «يجيش» الأمة كلها وليس الجيش المحترف وحده من أجل خوض «حرب دفاعية» إذا ما فرضت عليه لا يستطيع الخصم أن يُنهيها وقتما يشاء ولا السيطرة على ميدانها بحجم ما يشاء.
و«الجهاد» الدفاعي كما هو معروف «واجب عيني» على المسلمين كافة يهبّ الجميع للقيام به إلى حين انتهاء مهمة دحر العدوان من دون الحاجة إلى فتوى من أحد، لا من المعصوم ولا من ينوب عنه.
أيضاً، فإن رجل الشارع الإيراني كما رجال الطبقة السياسية في إيران يعرفون إلى جانب ذلك أن بين الدفاع و«الهجوم» ثمة خيط رفيع يشبه الخط الفاصل بين الجنة والنار، لذلك ترى أن الخط البياني لمجمل التحرك الإيراني يشبه مصداق الحديث الشريف المنسوب لمؤسس الفقه الجعفري الاثني عشري الإمام جعفر الصادق (ع)، إذ يقول: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فهو يخطط عملياً للسلام والتنمية والبناء السلمي للمجتمع والدولة وكأن البلاد في مأمن من كل شر «أبدا» في الوقت نفسه الذي يعمل فيه وكأن الحرب «واقعة غداً لا محالة».
لا تفسير آخر للحوار الذي يُحضّر له انطلاقاً من العاصمة العراقية بين طهران وواشنطن في الوقت نفسه الذي نسمع فيه «جعجعة» السلاح المتطور في المياه الخليجية الدافئة إلا ما قلناه آنفاً.
أيضاً وأيضاً فإنه وعلى رغم كل الأصوات الحربية التي تسمع من الجنوب الإيراني ثمة أنباء متواترة تفيد باحتمال نجاح جهود الدبلوماسية الروسية والصينية والألمانية في العودة مجدداً إلى طاولة الحوار «النووية» بين طهران وكل من هو معني بالشأن النووي الإيراني في إطار محورية الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الذي يعرف عمق الشخصية الإيرانية يعرف أيضاً أن المفاوض الإيراني كما هو حال تاجر البضاعة الفارسية النادرة لا يعلن عن «سعر» بضاعته في فضاءات «ضجيج» المعارك ولا قعقعة السلاح. إنه يُفضل دائماً أن يعلن ما يريد في أقصى نهايات المفاوضات.
إنه أيضاً يُمارس عن وعي أو من دون وعي، أي بالإرادة الواعية أو بخلفية النشأة، دبلوماسية ما يمكن وصفها بـ «دبلوماسية حياكة السجاد»... صبر طويل على المعاناة وتحمل خشونة الطريق، بالإضافة إلى عدم اكتمال الصورة إلى أن تظهر «اللوحة النهائية» مرسومة على السجادة العجمية.
ثمة من يقول إن سياسة «حافة الصدام» التي تتبعها دبلوماسية أحمدي نجاد وفريقه المفاوض قد تقود في الدقيقة 90 إلى تسوية اللحظة الأخيرة.
كل ما هنالك أن المفاوض الإيراني لا يُفضِّل تسويات «الرزم» كما كانت تقترح عليه الترويكا الأوروبية حتى الآن، وهو ما ظلت تصرّ عليه طوال المفاوضات مع «العهد الخاتمي».
فاقتراح التسوية/ الرزمة مهما يمكن مُشجعاً فإنه سيكون محرجاً لا محالة على الأقل بالنسبة إلى فريق أحمدي نجاد التفاوضي الايديولوجي! ذلك أن اقتراح «الرزمة» الذي يحمل الكثير من «المحفزات» الاقتصادية كما تفيد المعلومات يحمل في بنود الشق الآخر من الرزمة التزامات و«تعهدات» إيرانية تجاه المجتمع الدولي بـ «الانخراط» فيما بات يطلق عليه عمليات «مكافحة الإرهاب العالمي» والقطع إن لم يكن القطيعة الكاملة مع منظمات أصولية! تعتبرها عواصم صنع القرار الدولي الأساسية وفي مقدمتها واشنطن منظمات «إرهابية»! مثل حزب الله وحماس والجهاد و... طهران بالمقابل والتي تتهمها واشنطن بأنها باتت أشبه ما يكون بـ «المصرف المركزي» للإرهاب العالمي! ترى في واشنطن الطرف الذي لا يمكن الركون إليه مطلقاً لا كمرجع في تعريف الإرهاب المختلف عليه ولا كمرجع في قيادة المعركة ضد الإرهاب العالمي حتى لو تم التوافق على «تعريف ما» للإرهاب!
من هنا فإن طهران تفضل تسويات على مراحل وتسويات على مستويات متعددة وتسويات في أزمنة مختلفة ومع أطراف مختلفة معنية بالتوافق مع الموقف الإيراني أو الاختلاف معه على أسس واضحة وشفافة وقابلة للقياس الكمي والنوعي وليس على الطريقة الأميركية العشوائية.
واستناداً إلى كل ما تقدم فقط يمكن فهم سياسة الحوار الإيراني الأميركي «البغدادي» الذي يفترض أن ينطلق في أية لحظة على أصوات فرقعة «مناورات الرسول الأعظم» الإيرانية في المياه الخليجية الدافئة... الحوار المرشح أن يقود إلى الانفراج أو الانفجار، وإلى أن تحسم الحال تظل دول المنطقة تعيش حال «انكفاءة» قلقة غير مبررة متأرجحة بين الخوف والرجاء من أن تصاب بما لا تحمد عقباه.
رئيس منتدى الحوار العربي الايراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1310 - الجمعة 07 أبريل 2006م الموافق 08 ربيع الاول 1427هـ