حوادث مثل نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد (ص) وما تبعها من حوادث رهيبة تترك معظمنا في حيرة عن كيفية التوفيق بين غضب وعنف أقلية من المسلمين وثقافة السلام التي ترعاها الغالبية. نرفض أحياناً، أو نحاول تفسير أعمال هذه الأقلية العدوانية بأنها لا تمثّل بقية المجتمع المسلم المحب للسلام. وعلى رغم أن واحداً من كل خمسة من البشر على الأرض مسلم، فإن النسبة الضئيلة التي تلجأ إلى أساليب لا عقلانية وضارة للتعبير عن احباطاتها هي التي تقفز إلى العناوين الرئيسية.
لقد حان الوقت لأن نبدأ نحن المسلمين بتحديد وتحليل أسباب تحييد هذه الأقلية وإسكاتها لمعظمنا. أهم مشكلة يواجهها المجتمع المسلم اليوم هي غياب ظاهري للقيادة الروحانية والأخلاقية، وهذا ناتج عن خوف متأصل من طرف المسلمين الممثلين من اتخاذ موقف مسئول حيال الأزمات والحوادث الحالية.
هل يعود ذلك إلى انعدام ضمني للأدوات اللازمة في الإسلام للتعامل مع المشكلات الجديدة؟ ليس بالضبط الزعماء الإسلاميون وعلماء القانون واجهوا تحديات جديدة ومشكلات صعبة لمدة قرون طويلة واستخدموا إما الاجتهاد أو التقليد للوصول إلى النتائج. الاجتهاد هو عملية التفكير المنطقي يستخدم فيه عالم القانون الإسلامي المبادئ والأساليب المؤسسة في النظرية القانونية لاستنباط قانون مباشرة من الشريعة والسنّة. التقليد هو الالتزام بسابقة أرسيت قواعدها في إحدى مدارس الفقه الإسلامي الأربعة... والحكم انسجاماً معها.
هدف العمليتين متماثل: التوصل إلى معايير قانونية تنسجم مع شريعة الله تعالى. فبينما يفسر الاجتهاد المصادر مباشرة، يشير التقليد إلى سلطة أحد مؤسسي مدارس الفقه. الاجتهاد عبر عصور التاريخ الإسلامي تمتع بموقع مميز كأسلوب له مقام رفيع في صنع القرارات. التقليد يُستَبعد اليوم على أنه مجرد محاكاة سهلة الانقياد إلى الآخرين. إلا أن تبسيطاً كهذا يغفل الموضوع.
الاجتهاد كان منهجياً في تشكيل النظام القانوني من البداية. ولدى تأسيسه وإرساء قواعده أصبح غير ضروري بحد ذاته (لم نكن بحاجة إلى إعادة اكتشاف النظام القانوني، وإنما فقط للوصول إلى قرارات بشأن حالات جديدة لدى نشوئها). ومع وجود النظام القانوني الإسلامي، أصبح التقليد الأسلوب القائم للتعامل مع القضايا التي تنشأ.
منذ فترة طويلة، استمر جدل بين المسلمين بشأن فضائل الاجتهاد على التقليد، فوجدوا أنفسهم في موقف مستحيل. الكثيرون من المسلمين العاديين والعلماء على حد سواء يجادلون في أن علينا احتضان الاجتهاد للتعامل مع المشكلات التي يواجهها المجتمع في العالم الحديث لأن التقليد هو محاكاة عمياء، وهو ما شكّل السبب الرئيسي لمشكلاتنا. ولكن قلّة من العلماء هم الذين يملكون الكفاءة اللازمة لممارسة الاجتهاد حتى داخل المؤسسات الإسلامية التقليدية للمعرفة المتقدمة، ومعظم الذين يمارسون الاجتهاد يبدو كأنهم ليسوا على صلة لا مع العالم الحديث ولا مع القيم الإسلامية، ما يجعل النتائج التي يتوصلون إليها غير مرجعية وبعيدة الصلة بالموضوع. أما من حل إذاً؟
مؤسسة الفتوى تقع في مكان وسيط بين الاجتهاد والتقليد. الفتوى، أو الحكم القانوني، تأتي ضمن إطار التقليد، وهي نتيجة للاجتهاد ضمن مدرسة محددة من مدارس الفقه. وعلى رغم أن أسوأ الفتاوى سمعة في الذاكرة الحديثة كانت غير مفيدة أو عقلانية مثلها مثل أفعال الأقليات العنفية الملتهبة، فإن احتمالات استخدامها لإرساء قواعد السلام والتسامح كثيرة.
قد يكون هذا هو المكان الذي يستطيع فيه المجتمع المسلم أن يجد صوته وأن يعبر عن نفسه بأسلوب أكثر مرجعية. عندما يقع حدث مثل نشر الصور الكاريكاتورية للنبي محمد (ص)، يجب على الزعماء العقلانيين ذوي الذكاء، المتمكنين من مصادر المعرفة الإسلامية، أن يجتمعوا ويأتمروا ويصدروا فتاوى عملية في الوقت المناسب تتعامل مع صلب المشكلة، وتقترح إجراءات فعّالة مناسبة ليقوم المسلمون باتخاذها.
كيف يمكن لذلك أن ينجح في موضوع الرسوم الكاريكاتورية؟ الرسوم ظهرت للمرة الأولى في الصحافة الدنمركية في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، إلا أن الرد العالمي لم يبدأ حتى ما يزيد على 5 أشهر. كان لدى القادة المفكرين المسلمين وقتاً كافياً لإصدار فتاوى لتوفير وجهة نظر إسلامية بشأن رسم النبي الكريم (ص) وحرية التعبير إضافة إلى ردود مناسبة. كان بإمكان الفتاوى أن توقف المجموعات الصغيرة التي استغلّت قضية الرسوم الكاريكاتورية لمكاسبها السياسية الشخصية.
لقد شهدنا ذلك ينجح بفعالية في الكثير من الردود على الرسوم. المنظمات الإسلامية في دول مختلفة عرضت أعمالاً راسخة إيجابية توافقية يمكن اتخاذها بهدف تثقيف الجمهور عن لطف النبي (ص) ومسالمته وورعه. في جميع أنحاء العالم قام المسلمون المهتمون بإعداد لقاءات وأحاديث تثقيفية وتوزيع الأفلام والكتب وغيرها من المواد الإعلامية لعرض وجهات نظرهم بشأن الموضوع. ولكن هذه المجموعات التابعة إلى الجاليات لم تحصل على العناوين الرئيسية لوسائط الإعلام، كما أنها لا تحظى بالمرجعية الدينية عند المسلمين في الدول الأخرى، وخصوصاً في أوساط المجموعات السياسية المصممة على استخدام العنف لتنفيذ أجنداتها الضيقة.
يجب على هذه المنظمات المعتدلة أن تلقي بخوفها من الاجتهاد والتقليد وأن تتسلم مسئولية تقديم وجهات النظر الإسلامية التي تمثل غالبية المسلمين وبالتأكيد، الإسلام نفسه بصورة أفضل.
إذا سلّم المسلمون المتّزنون والمثقفون زمام السلطة الأخلاقية والعقلانية إلى العناصر الأكثر عنفاً والأعلى صوتاً والأكثر لا عقلانية في المجتمع، فإننا نحن شركاء في هذا السلوك وهذا التصرف. نستخدم أصواتنا من خلال آليات كالفتوى لإيجاد مقياس أخلاقي جديد لمجتمعنا.
إذا لم نتمكن من البدء باستعادة الإسلام من أجل هؤلاء الذين يحبون ويعتنقون تراثه المثير للإعجاب من السلام والتسامح، وإرثه العلمي والاستكشافي وتعاليمه بالمساواة والحرية والمسئولية، فنحن إنما سمحنا لجمهور غاضب من الرعاع أن يتحدث نيابة عن معظمنا
العدد 1309 - الخميس 06 أبريل 2006م الموافق 07 ربيع الاول 1427هـ