أول آية في كتاب الله أنزلت على النبي محمد (ص): «اقرأ»، دليل واضح على عظيم المكانة التي يوليها الإسلام للقراءة، بما تمثله من وسيلة وسبيل للأخذ بأسباب العلم، وما ترمز إليه من فعل حضاري ينقل الأمة من ساحة الجهل وظلمته إلى نور العلم ورحابته. واستطاع الإسلام من خلال منهاج القراءة أن ينقل الأمة الأمية، عرب الجاهلية، إلى مصاف الأمم المتحضرة التي كان لها الفضل الكبير على تقدم الإنسان وتطوره الحضاري. كما كان لها الإسهامات الكبرى في إرساء قواعد الحضارات الحديثة، كما يقول جواهر لال نهرو في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» إن: «الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة».
ولم يصل العرب والمسلمون إلى هذه المكانة إلا لأنهم فهموا القراءة فهماً عميقاً، إذ لم تمثل القراءة انغلاقاً على الذات وتكبراً على الآخرين، بل كانت انفتاحاً فكرياً على الآخر ونتاجه، تتواضع للعلم أنى كان مصدره. هذا الفهم الواعي لمسألة القراءة بأبعادها الثقافية والفكرية والحضارية والعلمية هو الذي ساهم بشكل أساسي في انتشار الإسلام في العالم، إذ لم يكن السيف هو الذي جعل أمة عريقة كالأمة الفارسية على سبيل المثال تترك منظومتها العقائدية والكثير من خصوصياتها الحضارية لتختار الإسلام كدين بديل، بل إنها وجدت في الإسلام ضالتها كدين ينفتح على قضايا المادة والروح والدنيا والآخرة.
الانحصار في النص الديني
إننا على يقين راسخ أن الحضارات هي وليدة القراءة بمعناها الواسع والمتقدم الذي ينفتح على الكون والإنسان والحياة، لا القراءة التي تتجمد في زاوية محددة كما حصل في عصر الانحطاط الإسلامي عندما قزمنا مفهوم القراءة، وتالياً مفهوم العلم، ليصبح محصوراً في قراءة النص الديني فحسب، وغضضنا الطرف عن قراءة كتاب الحياة والكون، والخطورة هنا تكمن في حصول التباس مفاهيمي في النظرة إلى مفهوم العلم والقراءة، إذ تم تمجيد العلم النظري على حساب العلم العملي وتقديم العلم الديني على الدنيوي، فجرى تخصيص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تمتدح العلم والعلماء بدائرة العلوم الدينية، ما ساهم في تفاقم انحطاط الأمة لتصبح عالة على الآخرين في كل حاجياتها العملية وإمكاناتها، وواكب ذلك اصرار سلطان الاستبداد على مصادرة عقل الأمة وتجهيلها لتغدو الأمة التي أرادها الله خير أمة للناس، أجهل الأمم وأقلها قراءة كما في الإحصاءات والدراسات الأخيرة.
إننا نشعر بالمهانة عندما نقرأ في الصحف أن العالم العربي هو من أقل شعوب العالم تقريباً في القراءة، لأن ذلك يعني أنه وصل إلى الدرك الأسفل في السلم الحضاري، الأمر الذي يستدعي استنفاراً كاملاً لتفعيل ثقافة القراءة بين أبناء الأمة وترشيدها لتقرأ النافع من العلوم ولتطلع على تجارب الآخرين بما في ذلك تجربة الخصوم والأعداء، وخصوصاً تجربة اليهود في فلسطين المحتلة بتداعياتها في المنطقة والعالم، ولتبتعد عن الثقافة المضللة والمسطحة، وخصوصاً الثقافة التي تخاطب الغريزة بعيداً عن كل القيم الدينية والأخلاقية، لتحاول أن تسلب منا شبابنا، وتقدم لنا أجيالاً مائعة لا ترتكز على قواعد علمية أصيلة في التراث ولا تأخذ من العلم الحديث إلا شكليات ترفيهية ذاتية بحتة تعمق الجانب الغرائزي على حساب القيم والتطلعات العلمية الكبيرة.
إن هذه المشكلة في القراءة انعكست على الخطاب، فتدني المستوى الثقافي لأية أمة يتلازم مع تدني الخطاب وسطحيته. ولهذا نجد أن خطابنا العربي والإسلامي عموماً، أصيب في مقاتله، فكان ولايزال في معظم نماذجه الدينية والسياسية وحتى الثقافية، خطاباً انفعالياً لا يؤصل للأمة مفاهيمها ولا يعالج أوجاعها ولا يشفي غليل المتعطشين إلى العلم، المتطلعين إلى أجوبة علمية وصريحة وحلول شافية لاستفساراتهم واستفهاماتهم ومشكلاتهم المتعددة. وبذلك ابتعد الدين عن أن يكون عنصراً حضارياً فاعلاً عندما أدخلناه في المتاهات الانفعالية والأنفاق الخرافية وأبعدناه عن صناعة الحياة، وعندما حاولنا أن نضع جدراناً من التخلف بينه وبين العلم أو صورناه كعدو للعلم، وهو الذي حث على طلب العلم «من المهد إلى اللحد».
العواصم الثقافية
وكما أن الخطورة تكمن في الجانب البنيوي في هذا المجال وعلى مستوى القواعد الذهنية المتخلفة، قد تكمن أيضاً في الجوانب الشكلية التي بدأت تقتحم علينا حياتنا، إذ لا يكفي أن نعلن هذه المدينة أو تلك عاصمة ثقافية بطريقة استعراضية من دون أن نقدم برنامجاً عملياً لتفعيل القراءة والحركة الثقافية في هذه العاصمة وما حولها، لأنني أزعم أن الجانب الإعلامي الاستعراضي طغى على حركتنا الثقافية كما طغى على حركتنا السياسية، فأصبحنا نجري في الجانب السطحي للأشياء من دون أن نغوص في الأعماق، وأصبحت الوسائل الإعلامية تهتم إلى الحد الأقصى بالجانب الفني على حساب المضمون العلمي والثقافي والإبداعي.
إنني أدعو إلى القراءة الواعية على جميع المستويات التي تقودنا إلى النقد الواعي الذي اعتبره أساساً من الأسس الكبيرة الذي يمكن أن يساهم في عودة الأمة إلى سياقها الحضاري والعلمي. علينا أن نقرأ تراثنا جيداً لنقوم بعملية تمحيص وتدقيق لما علق به من شوائب ولننتزع ما زرع فيه من ألغام، وعلينا أن نعنى بمراكز الدراسات التي نستطيع من خلال بحوثها ودراساتها أن نتعرف على عدونا، بعناصر القوة والضعف فيه، كما أن ثمة مهمة كبرى ملقاة على عاتقنا قبل غيرنا بأن نسبر أغوار الكون ونتعرف على أسراره العلمية ونتفكر في آفاقه.
علينا أن نقرأ الواقع المعاصر ونحاول أن نستشرف المستقبل في حركة الدول وفي المشروعات المعدة للمنطقة وفي تبدل المعطيات السياسية بين مرحلة وأخرى، لأننا نشعر بالخطورة الكبرى في أن «إسرائيل» بدأت ترسم مستقبلها وفق الخطط التي طورتها مع تطور الأوضاع في المنطقة، بينما نغرق كأمة في صراعاتنا المذهبية وفي الحصة التي سنأخذها كطوائف وأحزاب من الكعكة التي يقدمها لنا المستكبر الأميركي هنا وهناك، ولا نحاول أن نرسم مستقبلنا كأمة أو حتى أن نجلس جلسة عملية واحدة لنتدارس بصراحة كيف يمكننا أن نبني صرح الأمة أو كيف نشيد بناء الوطن، لا أن نبني مشروعاتنا الخاصة وصروحنا الذاتية التي تشبه إلى حد كبير بيوت الرمال التي يبنيها الأطفال على الشاطئ والتي يأتي الموج ليسقطها ويذيبها
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1309 - الخميس 06 أبريل 2006م الموافق 07 ربيع الاول 1427هـ