شكلت حملة نابليون بونابرت على مصر في العام 1798 (1213هـ) لحظة تاريخية أسهمت لاحقاً في تعديل الكثير من الاتجاهات العامة. فالحملة نقلت الصراع الفرنسي - البريطاني من أوروبا إلى الديار العربية الإسلامية وأحيت من جديد خطوط التجارة القديمة (الصراع على قناة السويس) وأعطت قوة دفع للعناصر والاطراف المتضررة من نفوذ السلطنة العثمانية للتفكير بتأسيس دولة مستقلة عنها.
هذه الحملة العسكرية سجلت نتائج سياسية لاتزال سارية المفعول إلى أيامنا وشكلت منعطفاً في مسار المنطقة نظراً إلى كونها حددت مفاصل في عناوين كثيرة يمكن اختصارها في كلمات قليلة وهي: صعود قوة الغرب وهبوط قوة العرب.
لماذا حصلت الحملة، ولماذا فكر بونابرت في نقل جيوشه من أوروبا إلى قلب العالم العربي الإسلامي؟ الاجابة تتطلب العودة إلى قراءة تلك التحولات التي شقت طريقها من القارة إلى العالم الجديد (أميركا). فآنذاك كانت التوقعات تشير إلى احتمال حصول انقلاب كبير في أوروبا. والمفاجأة كانت ان الانقلاب حصل في أميركا وانتقل منها إلى فرنسا. وهذا المفارقة لابد من اخذها في الاعتبار لفهم ذاك الانسداد التاريخي الذي احدثته ثورة الاستقلال في الولايات المتحدة في وجه بريطانيا واضطرار الأخيرة لإعادة النظر في استراتيجيتها الدولية.
آنذاك كان التاريخ يسير منذ نهايات القرن الثامن عشر في خطين متعاكسين. الأول في أوروبا يتجه صعوداً ويستثمر توسع مجاله الجغرافي وحدود سيطرته الدولية لتطوير انجازاته العمرانية والمعرفية. والثاني في العالم الإسلامي يتجه نزولاً على رغم محاولات اللحاق لكسب أسباب التقدم والتعلق بأهداب أوروبا ودولها في سياق تبلور أوهام نظرية عند النخب تستسهل عناصر النهوض وتستعجل مسلتزماته.
قبل حملة بونابرت على مصر كانت المنطقة شهدت الكثير من محاولات النهوض ودعوات الإصلاح. وأصيبت كلها بالفشل أو كان تأثيرها محدوداً بسبب اتساع تلك الفجوة التي حققتها أوروبا على المستويين العمراني والمعرفي خلال فترة زمنية امتدت قرابة ثلاثة قرون من مطلع القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر.
هذه الفجوة الزمنية كانت كافية لتحقيق التقدم على العالم الإسلامي وتشجيع دول أوروبا على التزاحم من أجل اقتطاع تلك المناطق وتمزيقها أو نزعها من اطارها الجغرافي/ التاريخي وإلحاقها بها كمستعمرات.
آنذاك كانت مصر تعاني من مشكلات بنيوية وتسيطر عليها سياسة ملتبسة هي مزيج من بقايا المماليك والحاكم العثماني الذي نجح في بسط نفوذه وفرض سيادته من دون ان يلغي تلك المؤسسات المملوكية التي استمرت تعاند الزمن.
حين وصلت القوات الفرنسية إلى الاسكندرية في العام 1798 كانت القاهرة فرجت لتوها من انتفاضة شعبية قادها علماء الأزهر وشيوخه في العام 1795 (1209 هـ) فتلك الانتفاضة التي استمرت ثلاثة أيام بقيادة جامع الأزهر الشيخ عبدالله الشرقاوي وانتزعت مطالبها من الحاكم الإداري (العثماني) اعطت اشارات قوية إلى مكانة رجال الدين وبروز دورهم المستقل والتقاطهم المبكر في وعي مشكلات الناس. السلطة القائمة كانت تعاني من خواء والناس كانوا على هامش التطور. لذلك شكلت الانتفاضة بداية نهوض شعبي تقوده المساجد والجوامع دفاعاً عن الإسلام وتلك المخاطر التي اخذت تهدد هوية الأمة وثقافتها الجامعة.
لم يكن صعباً على قوات نابليون بونابرت (45 ألفاً) المجهزة بأحدث المعدات الحربية من هزيمة الحامية المكلفة بحراسة المدينة. فالاسكندرية آنذاك كانت ضعيفة ولا تملك التحصينات القادرة على مواجهة المدفعية الفرنسية.
بعد الاسكندرية جاء دور القاهرة. وهناك حصلت معركة الأهرامات هزمت فيها القوات المحلية التي تجمعت عشوائياً لمواجهة أقوى قوة أوروبية. فالمعركة كشفت عن ذاك الفارق الهائل في المعدات والتنظيم والتخطيط. وبعدها أعلن بونابرت سلسلة قرارات إدارية وتنظيمية لتطمين الناس على حياتهم ودينهم وتأمين الاستقرار الأمني لقواته.
لجأ بونابرت في الشهور الأولى للاحتلال إلى استخدام حيلة على شيوخ الأزهر فادعى انه جاء ليدافع عن الإسلام وينقذ مصر من التسلط والذل والاحتقار. وحتى يعطي صدقية لكلامه وزع منشوراً افتتحه بالبسملة مشيراً إلى أن انتصاره هو حكم «رب العالمين القادر على كل شيء».
منشور بونابرت يعتبر وثيقة تاريخية للدلالة على مدى كذب ونفاق الدول الكبرى في تعاملها مع الشعوب. فالنص كتب في لغات ثلاث الفرنسية، التركية والعربية، واختلفت الصياغة الفرنسية عن العربية في أكثر من نقطة وخصوصاً تلك الفقرات والأسطر التي تتحدث عن الإسلام والمسلمين وصداقة فرنسا وأهداف الحملة.
حاول نابليون خداع الناس مستفيداً من بؤسهم وضعفهم وقلة حيلتهم. كذلك اجتهد في التقرب من شيوخ الأزهر مدعياً انه جاء من فرنسا التي طبقت «الحرية» و«المساواة» لمساعدة المسلمين على تدبير دولتهم وإصلاحها وتطبيق الإسلام الصحيح في بلاد المسلمين. ولم يتردد نابليون في الادعاء في جلساته الخاصة مع شيوخ الأزهر انه يؤمن بالإسلام والقرآن الكريم وأن مساعديه يتلون الآيات ويحفظونها وأنه يفكر جدياً بإعلان إسلامه حين تأتي الفرصة المناسبة.
انطلى المنشور وما اعقبه من جلسات حوار مع الشيوخ على الكثير من الناس والنخب المصرية آنذاك، وظهرت بوادر تعاون بين قادة الحملة ورجال الأزهر على اساس ان فرنسا لا تريد من حملتها الاحتلال ولا إزالة الدين وإنما إصلاح «حال الأمة كلها».
استفاد نابليون كثيراً من منشوره ونجح في اقناع «النخبة» المسكينة والمغلوبة على أمرها ان فرنسا صديقة المسلمين وهي حاربت تلك الدول التي قاتلت السلطنة العثمانية في أوروبا. وسرد نابليون تاريخ معاركه ضد النمسا وايطاليا (بابا روما) وبروسيا وهولندا وفرسان جزيرة مالطا لتأكيد صدق نواياه.
هذا الدجل أقنع بداية مختلف القوى المتضررة من الحكم العثماني - المملوكي وأعطى ضمانة بأن فرنسا صديقة للمسلمين وهي تريد الخير لهم. فالأمور لم تكن صعبة على نابليون في ايجاد المفردات والأمثلة لإقناع الناس الغلابة والنخب الخائفة. فآنذاك كانت السلطنة تؤيد الثورة الفرنسية ولا تعارض شعاراتها وأهدافها. كذلك وجد العثمانيون في حروب وفرنسا دفاعاً عن ثورتها نقطة لقاء مشتركة لأنها خففت الضغط العسكري عليهم ونقلت تحالف دول وممالك أوروبا من العداء للسلطنة إلى العداء للثورة.
الكلام المعسول لم يدم طويلاً. وهذا ما يمكن ملاحظته من تطور العلاقة سلباً بعد اكتشاف شيوخ الأزهر وجود سياسة ملتوية في سلوك نابليون وتصرفات قيادة حملته.
هناك الكثير من الأسباب التي دفعت علاقات نابليون مع شيوخ الأزهر ورجال القاهرة إلى التأزم والتصادم. فهناك أولاً العلاقات المباشرة التي كشفت مع مرور الأيام أن إسلام نابليون مجرد خدعة. ثانياً شكوك رجال الأزهر بعدالة الديوان، وهو هيئة استشارية شكلها نابليون من أهل القاهرة، وتبين أنها ليست متوازنة أو متساوية في تمثيلها النسبي للتوازن السكاني. ثالثاً وهذا هو الأهم إعلان نابليون عن عزمه للتوجه بجيشه إلى بلاد الشام واحتلال فلسطين.
العزم على احتلال فلسطين أيقظ تلك الشكوك وبدأت المخاوف على الدين والهوية تعود إلى الارتفاع مجدداً لمواجهة الحملة الفرنسية. وزاد من القلق إعلان السلطنة عن تجهيز جيش لمواجهة القوات الفرنسية وطردها من مصر بعد ان بدأت الحملة الفرنسية تشق طريقها من السويس إلى يافا وحيفا وتوقفت عند عكا بسبب المقاومة العنيفة التي قادها والي المدينة العثماني أحمد باشا.
أمام أبواب عكا توقفت حملة بونابرت واضطر ان يعلن عن فشلها ويعيد ما تبقى من قواته إلى مصر بسبب حصول تطورات خطيرة منها ارسال بريطانيا اسطولها البحري إلى شواطئ الاسكندرية وتحطيمها الاسطول الفرنسي في موقعة أبوقير في العام 1798. ومنها أيضاً بدء نهوض مقاومة شعبية بقيادة رجال الدين وشيوخ الأزهر.
مضى على حملة نابليون حتى الآن ثلاثة أشهر وهي فترة كانت كافية لانفراط عقد التحالف الذي شكله بعد احتلاله القاهرة. وبعد فترة الهدنة هذه ستبدأ حركة التصادمات والمواجهات وسيلعب خلالها إمام الأزهر ورئيس الديوان (الهيئة الاستشارية) الشيخ الشرقاوي دور المحرض والقائد لانتفاضة مصر.
بدأت الانتفاضة في أكتوبر / تشرين الأول 1798 رداً على قوانين اعتبرها شيوخ الأزهر ظالمة ومجحفة بحق المسلمين فاندلعت المواجهات واستخدم الجيش الفرنسي سلاحه الحديث لقصف الاحياء الشعبية وجامع الأزهر والمناطق المحيطة به. وانتهت الانتفاضة بمقتل ثلاثة آلاف مصري واقتحام المسجد وتحطيم مكتباته ورمي مخطوطاته واعتقال بعض رجاله وشيوخه واعدامهم إلى جانب رموز الثورة.
قيادة الأزهر لانتفاضة الاستقلال ومواجهة قوات الغزو الأجنبي سيكون لها وقعها الموضعي في تلك الفترة كذلك ستحول إلى نموذج تاريخي لموقع المراكز الدينية ودورها في الممانعة. وكذلك ستعزز تلك الفترة رجال الدين وتصدرهم للقيادة السياسية ومحاولات الاستلاب والتخريب وتشويه الهوية الحضارية للامة. هذه المسألة لم تكتشفها النخب العربية «الحداثية» حتى الان. فهي لاتزال تتعامل مع الإسلام وكانه قوة تعطيلية للتقدم كما كان الأمر حاصلاً مع الكاثوليكية حين تصدت الكنيسة لحركة مارتن لوثر الإصلاحية. كذلك لم تلحظ النخب العربية (الحداثية) اختلاف الموقع التاريخي وتميز دور شيوخ الإسلام المقاوم للاحتلال الأجنبي عن دور «الاكليروس» المستفيد من النظام الطبقي في فرنسا وأوروبا.
هذا الاختلاف في الموقع حدد مجموعة وظائف للمسجد وشيوخه تختلف عن تلك الوظائف التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تلعبها في أوروبا.
فهذا الاختلاف في الوظائف والدور شكل نقطة تحول في المنطقة، حين تراجعت قدرات الدولة (السلطنة) وباتت حماية عاجزة عن حماية الناس والدفاع عن هويتهم. وحين تتردد السلطة في القيام بواجباتها السياسية والثقافية والأمنية والاجتماعية تتقدم شبكة العلاقات الأهلية إلى الساحة وتأخذ المساجد مواقعها ودورها في الممانعة والمقاومة. وهذا ما حصل تحديداً خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر.
استمرت الحملة إلى العام 1801 (1216 هـ) أي انها لم تتعد السنوات الثلاث ولكنها كانت كافية لكشف ضعف السلطنة امام القوات الأوروبية، وأظهرت قوة الإسلام وقدرة رجاله وشيوخه على قيادة الانتفاضات. وهذا التطور سيكون له تأثيره الكبير في نسج علاقة خاصة بين الدين والسياسة في المنطقة العربية - الإسلامية. وهي مسألة لم تشهدها أوروبا نظراً إلى ذاك الاختلاف في وظائف الدين ودوره وموقعه في رسم هوية الأمة وتكوينها التاريخي مضافاً إليها عدم تشابه ظروف العمران والمعرفة.
انتهت الحملة الفرنسية إلى هزيمة سياسية وعسكرية حين اضطرت إلى توقيع اتفاق للخروج من مصر بعد ان تكبدت خسائر فاقت 22 ألفاً من جنودها إلا ان نهاية حملة بونابرت إلى الفشل لا يعني نهاية الحملات الأوروبية على الديار العربية - الإسلامية. فالنهاية كانت للحملة الأولى إذ ستعقبها حملات أخرى لن تتوقف إلى أيامنا.
نابليون كانت البداية وليس النهاية. فحملته فتحت الباب امام الصراع الدولي فدخلت بريطانيا على الخط متذرعة بوجودها واتصلت السلطنة التي تخوفت من الأطماع الفرنسية.
بريطانيا ساعدت السلطنة على الحاق الهزيمة بالاسطول البحري وحاولت ان تستغل تلك المناسبة للحلول مكان قوات بونابرت في مصر.
إلى انفتاح المنطقة على الصراع الدولي بدأ الانتباه الديني إلى وجود مخاطر حقيقية تهدد هوية الأمة وتعيد تكوين ثقافة الجامعات الأهلية. وهذا ما ظهر من خلال تلك التوترات التي اخذت تمتد من مكان إلى آخر ولم تتوقف أيضاً حتى حاضرنا.
قراءة نتائج حملة بونابرت شكلت الكثير من وجهات النظر في دوائر النخب العربية وهي لاتزال حتى الآن محط اختلافات في تقدير دورها في إعادة الوعي العربي الحديث في برهة زمنية لم تتجاوز السنوات الثلاث.
عاد بونابرت قبل نهاية الحملة إلى بلاده حين استدعته قوى سياسية لمساعدتها في اسقاط الحكومة الإدارية للثورة الفرنسية. وترك قيادة الحملة لرجاله الذين حاولو قدر الامكان تدارك سلبيات الصدمة على الناس الا أنهم عجزوا عن التصدي للانتفاضات المتتالية التي قادها الأزهر ورجال الدين لمواجهة، مخلفات الغزوة السياسية والثقافية.
آثار الصدمة يمكن قراءة محطاتها الثلاث في تاريخ عبدالرحمن الجبرتي (1756 / 1169 - 1825 / 1240 هـ).
فهذا المؤرخ / الشيخ من تلامذة الأزهر ورجالاته وصدق وجود نابليون وتعرف عليه واتصل بمعاونيه ووافق أن يكون أحد مستشاريه وعضواً في ديوانه (الهيئة) وسجل وقائع الغزوة في كتابين عن حوادث القاهرة ودولة الفرنسيسن.
المؤرخ الجبرتي يكثف صورة المثقف / الشيخ في زمنه وزمننا. فهذا الشيخ / المثقف، يعكس الاحساس بالضعف العام والقلق على هوية الأمة ومستقبلها في آن. هذا الشيخ لاحظ بداية تراجع الدولة عن لعب دورها القيادي في التحديث والتطوير والدفاع عن مصالح الأمة وحماية أمنها. وهذا الأمر دفعه إلى البحث مع رجال الأزهر عن موقع يؤمن لهم دوراً في تحصين هوية الجماعات الأهلية ومنعها من الضياع أو التفكك في خضم الضغوط التي انهالت على الديار الإسلامية.
هذه الصورة المتناقضة التي مثلها الجبرتي في تلك اللحظة (الحملة الفرنسية على مصر) ستبقى ثابته زمنياً وستتحول مع الأيام إلى تيار سياسي قوي يجد في الإسلام الحصن المنيع ضد الحملات والقوة القادرة على إعادة انتاج التاريخ وتكثيفه مع مستجدات العصر وتحدياته.
رؤية الجبرتي للحملة الفرنسية مرت في ثلاثة منعطفات الأول الدهشة (الإعجاب والحماس والمراهنة عليها). الثاني الشك (بدء الاحساس بوجود أهداف سرية أخرى) والثالث الانقلاب (دعم انتفاضة الأزهر وقيادته للتمرد على الاحتلال).
تاريخ الجبرتي وسلوكه السياسي وتصرفاته وعلاقاته واتصالاته ومخاوفه وشكوكه وتغير نظرته إلى الأجنبي (الفرنسيس آنذاك) تختصر الكثير من تلك المحطات التي ستمر بها الأمة كلها لاحقاً. فالأمة أيضاً وخصوصاً نخبها ستمر دائماً في محطات مشابهة تتدرج من الدهشة إلى الشك وثم الانقلاب على الغرب وثقافته.
عاد بونابرت إلى فرنسا بطلاً (فاتح الشرق) بينما الشرق العربي - الإسلامي بدأ من جديد يواجه مأزق التأخر والفوات الاجتماعي - التاريخي والصراع من أجل تحصيل شروط التقدم. وهذا التناقض سيظهر لاحقاً في دولة محمدعلي وصراعه المرير مع السلطنة من جانب ودول أوروبا من جانب آخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1309 - الخميس 06 أبريل 2006م الموافق 07 ربيع الاول 1427هـ