رحل صاحب «العصفور الأحدب»، «سأخون وطني»، «حزن في ضوء القمر»، «المهرج»، «الفرح ليس مهنتي»، «المارسيليز العربي»، «الأرجوحة»، و«غرفة بملايين الجدران». رحل محمد الماغوط، المتهكم والراصد لعروبة ذهبت وتذهب في سخرية الواقع والممارسة. لم يشرّح شاعر أو مسرحي أو كاتب، العروبة مثلما فعل الماغوط. لم يسمح لضميره ووعيه أن يترك لها حتى ورقة توت، لأنه في ظل مرحلة ممعنة في كذبها ودجلها وتسلقها وانبطاحها ووفرة الطغيان فيها، وجد أن أقل ما يتبقى من شرف المرء وحريته وعروبته غير الملوثة بمراسم الكذب والخديعة والاعلام المتورط في عهر بالجملة، يكمن في أن يقول كلمته من دون أن «يمشي»، كما درج على ذلك كثيرون. يكمن في تسمية الأشياء بأسمائها. الطاغية، طاغية، وجزء كبير من الاعلام الراهن خلاعة، وبيانات الجبهات، حفلة تعرٍّ، والبيان الأول، تقبيل أحذية على امتداد آلاف الكيلومترات. عروبة مفبركة ومصنّعة، خَبَرَ نواياها وأهدافها وتطلعاتها، عروبة لا علاقة لها بأول الامتداد، وحقيقة بهاء وروعة المضمون.
عِيبَ على الماغوط، أنه ظل يتنفس في ظل نظام متورط في الدرجة القصوى من القمع، وادخال الحرية ضمن ملكية الحزب. يخصص ويوزع كميتها من خلال كوبونات قابلة للدفع في المؤسسات الحزبية ومراكز تموينه، ومراكز السحل، ما جعله عرضة لانتقاد القريبين منه، قبل المترصدين له. أعمال عدة اشتغل عليها الماغوط، ممعنة في حساسيتها، وكمية التعرية فيها، ما رأى فيها كثيرون واجهة أو متنفسا لا يعبر عن الحرية أو هامشها في ظل نظام لا يؤمن إلا بحريته في اتخاذ ما يراه مناسبا لـ «قطيع» يحكمه، بل كان يعبّر عن حاجة ذلك النظام الى من يتصدى لحال من ضخ تآويل وتبريرات وتزويق لكل ما يرتكبه من فظاعات، وبعدها فليقل الفن والنص ما يريدان قوله، وسيفعل النظام ما يريد فعله.
حط رحاله في الامارات العربية المتحدة بداية الثمانينات من القرن الماضي، رئيسا للقسم الثقافي بصحيفة «الخليج» التي تصدر من امارة الشارقة. كنا وقتها ثلة ممن كانت أجسادهم النحيلة تنوء بأحلامهم الكبيرة: أحمد راشد ثاني، خالد بدر عبيد، أمينة بوشهاب، راشد سعيدان، مريم جمعة فرج، جعفر الجمري، وآخرون. كان رضاه وقناعاته بالنصوص المحلية وقتها ضربا من الوهم، وأضغاث أحلام، وحدث ما حدث في قصته الشهيرة معي يوم أن عمد الى إلقاء نصي الأول «بعد كبوات» في المكان الطبيعي واللائق به: «الزبالة»!
لم أخف حقدي وغيظي عليه، لكنني لم أترك الأمر يمضي كما تشتهيه ظروف سذاجتي وقتها، وظروف هيبته وبهائه اللذين ظلا كما هما لم يمسسهما سوء. صار الانكباب على القراءة، والسهر، أدوات لكسر قناعة الماغوط التي كثيرا ما كانت مرتجلة ونمطية تجاه النصوص المحلية، لنجد أنفسنا بعد شهور طويلة نحتل الصفحات الأولى للملحق الثقافي المتميز الذي ترك أثره وصداه على المستويين الإقليمي والعربي، وظل مساحة جذب واستقطاب كتابات وأصوات عربية ظلت لفترة من الوقت تتعامل مع صحافة ومنابر دول الخليج العربية بشيء من التحفظ، سرعان ما تم التخلص من جزء كبير منه.
لا يوجد مفهوم غائم وزئبقي ومتلون مثل العروبة... فتارة هي عروبة دكاكين الأحزاب التي تجاوز الدهر منطقها وخطابها، وتارة ثانية، عروبة أنظمة متأمركة من الرأس حتى أخمص القدم، وتارة ثالثة، عروبة نخبة مازالت هائمة وتائهة في مساحات شاسعة من الحنين المَرَضي، وتارة رابعة، عروبة جنرالات في أزياء ايف سان لوران، وفيرشاسي، يستدعون كل مخزون وتراث القمع الذي أسس له جنرالات بعمائم وجلابيب، وتارة خامسة، عروبة سماسرة يزكّون أموالهم بيد، وينهبون الأمة بيد أخرى، وتارة سادسة، عروبة مثقفين أبسط الملاحظات عليهم أنهم ينظرون بعينين: عين ساخطة على السلطة، وعين أخرى على السلطة نفسها، ورحم الله شعوبا شاء القدر والتاريخ والمصادفة أن يكونوا تحت رحمتهم!
بعض فروع دكاكين الأحزاب العربية في مملكة البحرين، تظل معنية بذلك التلون في تعاطي وتطبيق ذلك المفهوم، وعلى رغم التمويه والدلس والخديعة التي تلجأ اليها بعض تلك الدكاكين في حصر الانتماء الى ذلك المفهوم خطابا الى أمة عربية من المحيط الى الخليج، تجد أن الانتماء في الداخل مشكوك ومطعون في صدقيته. فقط تأملوا تسويق ذلك المفهوم الغائم والزئبقي والمتلون، الذي يؤكد حالا من انعدام الانتماء والولاء للداخل من خلال «روزنامات» وزعت أخيرا، يتصدرها عَلَم دولة عربية هيمن حزبها على الحياة العامة، ويمثل نموذجا صارخا لإرهاب الدولة والرئيس والشعار! هذا النموذج معشش بكل نتانته وعفنه وقذارته في البحرين، وتتصدر مقرّه لوحة تسوّق لعروبة «متصهينة»!... عروبة ضالعة في سادية وفي نهم من الثأر من ذوي القربى الذين هم «أولى بالنكران» من غيرهم. ما يجب ملاحظته في هذا الصدد، أن الأحزاب تلك - وإن بدت حال الاختلاف والتضاد بينها وبين بعض الحكومات في المنطقة - إلا أن الحكومات تظل تستأنس بحال شذوذها وخروجها العلني على الانتماء، فيما تأول تلك الحكومات في حال اتاحت فسحة من تنفيس لشعوبها للصراخ في الشوارع، شعارات ذلك التنفيس بما يكفل لها الزج بنصف شعبها في غيابات الجب!
عروبة بات الواحد منا يجفل لفرط ما اهترأ القميص الذي ترفعه في جغرافيات تشكو من ندرة الفضاءات ووفرة الحبس والحجْر. عروبة تحيلك الى البدائي في السلوك والحواس والعلاقة مع العالم من حولها. عروبة يقوم اقتصادها على مزارات الحاكم الإله حيا وميتا، وعلى احتلاب دموي للغة والمفاهيم، وتغييب الوعي، أو توجيهه. عروبة يمكن أن تحيلك الى الانعزال والانفصال عن كل ما يمت الى أي حراك في هذا العالم. عروبة طاقتها الكبرى خدر يستلب كل ما تراكم في الذاكرة، حتى بعد صحوة استثنائية
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1308 - الأربعاء 05 أبريل 2006م الموافق 06 ربيع الاول 1427هـ