لا أعرف كيف ستكون دمشق بلا أميرها الذي علمها الحب والإنسانية؟ كل يوم نفتقد أميرًا دمشقياً. بالأمس افتقدنا نزار قباني، قنديل سقط فانكسر ورحل ومازال الأدب العربي يسأل عنه. واليوم فقدنا محمد الماغوط، قامة لم تعرف الانحناء. طالما رحت أبحث عن نصوص الماغوط كلما شعرت بغربة الجغرافيا وتكدس اللاوعي.
هذا الأمير الدمشقي طالما امتشق حسام الأدب ليقضي على كل أمراضنا العربية، وما مسرحية «كأسك يا وطن» إلا دليل على ذلك.
الماغوط حارب بريشته الذهبية كل صور التخلف في عالمنا العربي مرض الزهايمر الفكري والكوليرا الثقافية من نرجسية المثقف إلى أحلام الثوريين إلى عصابية المتأدلجين. عندما علمت بوفاة الماغوط اتصلت معزيا صاحبي في غار الأدب والشعر سيدمحمد عدنان، لأني على يقين أن الشعراء لا تنصب لهم بيوت عزاء في عالمنا العربي. طالما قضيت ليالي مع السيد نتبادل نثر نزار- إذ نثره أقوى من شعره - وأدب الماغوط. رفعت يدي إلى السماء داعيا له بالرحمة والغفران من ذنوب عالم عربي موبوء متفنن في ظلم عباقرته وقاماته!
طالما مشى الماغوط وحيدا بين أسنان التنين، وتخلى عنه أقرب الناس إليه، ذلك «ان الصديق عدو تحت التدريب»، وفي كل حقل ترى من تحبهم يرمونك بالحجارة ويشنقونك أمام أعين الغرباء، وكذلك كان الماغوط. المثقف الذي كان يبحث عن قطعة خبز غير مغموسة في الكذب لكنه لم يجد من يتفهمه لأن الجماهير تبحث عن أصنام تعبدها ولو كانت تطعمها تخلفا ووثنية وأكياس هواء. في ظل الوثنية السياسية تكثر الأصنام، فعندنا أصنام الفكر وأصنام التأدلج وأصنام المصالح.
الماغوط كان غريبا وكان محسودا في عبقريته، فهو القائل: هذا العربي إنسان حسود يحسد الجالس على كرسي، ولو كان جالسا على كرسي «تواليت». يسخر من البنية التحتية في الدولة (المدنية) في العالم العربي إذ تصل الكهرباء إلى جسد السجين قبل أن تصل إلى الضيعة وأهل القرية! نحن ضائعون فشبابنا المسلم يغسل دماغه بأدران الموت وعندما تجلس مع شاب عربي مؤدلج تشم فيه رائحة تخرج من عقله لا تتعجب فهي رائحة التوابيت، رائحة الموت حيث تملأ الذاكرة. ان منابرنا تعلمه الكراهية والتعصب واحتكار الحقيقة ونرجسية تاريخ الأجداد والتعالي على امتيازات الانسانية وإضاءاتها ويدرب على كراهية كل جديد ولو كان في صالحه.
يتكلم الماغوط عن ظلم الناس إذا اختلفوا معه قائلاً: «إنهم لا يتركون أية خصوصية لمن يختلف معهم، لم يتركوا أية خصوصية إلا هتكوا عرضها، مجرم من يعبث بأدراجي ودفاتري وملاحظاتي في غيابي. انه كمن يعبث بعفاف طفلة وهي في نعش». ما أكثر هؤلاء العابثين بالأطفال الذين يسكنون في داخلنا أو في أوراقنا وكتاباتنا ومواقفنا، خصوصاً في ظل شيوع أصنام السياسة والثقافة والفكر الأحاديين الذين لا يختلفون كثيراً عن دكتاتوريي الشرق الأوسط: من قمع الكلمة وكراهية الرأي الآخر وحب الكارزما الى تنصيب الوصاية الشخصانية كما قال الاعرابي: «ياحبذا الامارة ولو على الحجارة». أما أنا فأقول: «ياحبذا الامارة ولو على الحمارة». اقرأ كتاب «عودة الحمار» لمحمود السعدني. وهو مرض المثقف العربي الذي مازال (يخاطب الناس من فوق البلكونة) على حد تعبير نزار قباني.
يقول الماغوط: «لا تنحني لأحد مهما كان الأمر ضروريا، فقد لا تأتيك الفرصة لتنتصب مرة ثانية». ويقول متأثرا: «هل أبكي بدموع فوسفورية حتى يعرف شعبي كم أتألم من أجله؟» وما أجمل توصيفه للفقراء: «وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد». هذه هي آلام الماغوط على العالم العربي. من المصادفات الغريبة اني اصطحبت معي ثلاثة كتب للماغوط لأقرأ بعضها وأعيد قراءة الباقي أثناء سفري في الطائرة إلى سويسرا حديثاً، كان منها: «شرق عدن»، و«سأخون وطني»، و«سياف الزهور»، إذ عادتي إذا سافرت اصطحب معي دواوين شعر أو نثر لأجدد شعري وذائقتي الادبية التي تآكلت بسبب أدران السياسة وأوجاعها، فأنا شاعر قبل أن أكون كاتبا.
ويوما سأعود إلى حضن أمي (شعري). وهذه المرة كان معي نصوص الماغوط. قرأت بعضا في زيورخ، منها نصوص وأنا أسير بين شوارعها الجميلة حيث جمال المدن ونقاء القلوب وأمن الحياة وشيوع الحب وسلامة المواطن من أمراض الحقد، قلت في نفسي: «لو كان الماغوط هنا هل سيكتب عن الأمراض العربية أم عن جمالية سويسرا (جنة الله على الأرض)؟»
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1307 - الثلثاء 04 أبريل 2006م الموافق 05 ربيع الاول 1427هـ