بدأ نيكولا ميكافيللي حياته موظفاً بسيطاً في حكومة مدينة فلورنســا، ولكنه قرأ في الأدب والتاريخ والفلسفة، فتصوّر نفسه نبياً من الأنبياء، فألّف 30 كتاباً لا تساوي خردلة. وحدث ان اجتاحت الجيوش الفرنسية فلورنسا وأطاحت بحكم أسرة «مديتشي»، فسارع ميكافيللي لتأييد النظام الجديد، مترقياً الوظائف الحكومية حتى وصل إلى منصب السكرتير الأول بالحكومة، التي أوفدته في بعثات مهمة إلى المدن الإيطالية والدول الأجنبية، اطلع خلالها على خبايا الحياة السياسية وأسرارها. وفي العام 1512 عادت أسرة مديتشي للحكم بمساعدة البابا، فقُبض عليه ونُفي إلى مزرعته بإحدى الضواحي. وفي منفاه ألف ميكافيللي كتاب «الأمير»، وأهداه إلى الأمير العائد لورينزو دي مديتشي، كإثبات للولاء للحاكم، على أمل أن يحظى بالقبول، ولكن لورينزو لم يعره اهتماما، فظل منسياً في مزرعته بتلك الضاحية حتى توفاه ملك الموت.
ميكافيللي نصح الحاكم في كتابه «الأمير» بالتخلص من الأخلاق والتقاليد والقيم المسيحية وخصوصاً التواضع، واستعمال الدين كوسيلة لكسب الشعب ليس إلاّ! وأن يجمع في سياسته الداخلية بين حبّ الناس وتخويفهم وإرعابهم بالسوط، وألاّ يتردد في استعمال القوة، وأن يتخلص من عهوده ووعوده إن كانت عبئاً عليه. ومن تلك النصائح وجوب تشكيل جيش قوي من المواطنين الطليان، لأن المرتزقة لا ولاء لهم إلا للنقود.
وللحق، هذا الركام الفكري «الميكافيللي»، هو مبادئ معتمدة فعلياً لدى الساسة عبر القرون، وانما قام الرجل بجمعها وتدوينها، يؤطرها مبدؤه الشهير «الغاية تبرر الوسيلة». هذا المبدأ الذي خلق له شهرة في كل أنحاء العالم، إذ ارتبط اسمه عند كل الشعوب بالانتهازية وانعدام الأخلاق، حتى أصبحت صورته في كل اللغات والحضارات لا تزيد عن صورة فردة حذاء: باع نفسه للفرنسيين، ولما عادت الحكومة السابقة ذهب ليلعق حذاء لورينزو، لكن هذا صدّه لئلا يلوّث حذاءه.
مات ميكافيللي في مزرعته العام 1527، ولكنه ترك وراءه كتاب «الأمير»، الذي اتخذه الديكتاتور بنيتو موسوليني بعد خمسة قرون موضوعاً لرسالته لنيل الدكتوراه، وانطلاقاً من هذه المبادئ قاد ايطاليا على طريق الفاشيستية. والأهم، أن ميكافيللي ترك وراءه نهجاً سلكه ويسلكه الكثير من المقلدين والمقلدات، والمريدين والمريدات في كل القارات!
هؤلاء المقلّدون، دائماً ما يبرّرون سياسات الحكام، يفلسفون خطواتهم، يدافعون عن أخطائهم، فإذا كان هوى الحاكم ضد البرلمان أخذوا يسمونه «البرطمان»، فإذا مالت الريح مع الديمقراطية، أصبحوا كلهم ديمقراطيين. وفي مرحلة متقدمة من «النيرفانا»، يبدأون التنظير للسياسات المستقبلية، مع اتجاه الريح.
ميكافيللي استعان بقصص القصور ومؤامرات الحكام من معاصريه، من خلال استقراء ميداني لسياسات عصره، أما «الميكافيلليون الجدد»، فيلجأون إلى قصص رياض الأطفال، مستلهمين حكايات الـ «سوبر ناني»، ليطبقوا نتائج رياض أطفال الخامسة على المجتمعات والشعوب، التي تسعى إلى الخروج من مرحلة القمع والكبت وسلطة المخابرات، إلى حياة تسودها الحرية كبقية الشعوب.
كل شعوب الأرض تخلصت من أغلالها، بينما «يتطوع» ميكافيلليونا لتقديم نظريات العودة إلى حظائر الحيوانات... أليست شعوب الشرق بحاجة إلى جنرالات «سوبر ناني»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1307 - الثلثاء 04 أبريل 2006م الموافق 05 ربيع الاول 1427هـ