كسوف الشمس الذي شاهدناه يوم الأربعاء الماضي، استمر نحو أربع دقائق فقط، لكن كسوف الديمقراطية وتراجع الحريات مستمر منذ أزمان...
خلال أربع دقائق من كسوف الشمس، حين دخل القمر بين الشمس والأرض، فحجب عنا أشعة الضوء، عادت الطيور إلى أوكارها، وهجعت معظم الحيوانات، وخرجت الزواحف من جحورها وانتشرت الثعابين والعقارب في مناخها الطبيعي حين يعمّ الظلام.
وخلال أزمان كسوف الديمقراطية وخسوف الحريات يعم الظلام أيضاً، فتخرج كل أنواع الزواحف السامة من جحورها لتلدغ وتقرص وتمارس هوايتها في تسميم كل شيء... فتتكاثر الكوارث ويعمّ الفساد ويسيطر الاستبداد، وتطفو على السطح الطحالب وتعوم الطفيليات وتهجم الأوبئة من كل صنف ولون، تهاجم الأجساد وتفسد العقول وتزيغ الضمائر قبل البصائر، وانظر حولك يا عزيزي ترى عجباً، هو الأشد إزعاجاً من احتجاب ضوء الشمس لأربع دقائق في ظل الكسوف، أو لمعان القمر في ظل الخسوف!
قبل ثلاث سنوات اجتاحت الولايات المتحدة الأميركية، مع تابعتها بريطانيا التي كانت عظمى، العراق في حرب غير متكافئة، وأعلنت على لسان الرئيس بوش، أن هدفه من هذه الحرب، إزاحة الرئيس العراقي صدام حسين، وإسقاط نظامه الديكتاتوري، وتدمير مخزونه من أسلحة الدمار الشامل، وعقابه على علاقته بالجماعات المتطرفة، وخصوصاً أسامة بن لادن، الذين خططوا وهاجموا نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
ساعتها كان الأميركيون وبعض الأوروبيين والعرب، يصدقون رئيس أكبر دولة في العالم، ويصدقون على معلوماته عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وربما عن علاقة صدام ببن لادن... ونجح الغزو وانتشرت قوات الاحتلال على الأرض العراقية من البصرة جنوباً إلى دهوك شمالاً، وصفق كثيرون وهلل المتأمركون العرب أكثر مما فعل أنصار المحافظين الجدد في واشنطن، وسمعنا أصواتاً ترطن بالعربية، وقرأنا مقالات كتبت أيضاً بالعربية، تصف الاحتلال بأنه تحرير وسقوط بغداد بأنه نهوض، وتنعت بوش بأنه محرر العراقيين والعرب عموماً، مثل اسبارتاكوس محرر العبيد!
مازلت أتذكر كم كانت أصوات هؤلاء زاعقة في الميكروفونات سابحة على أعمدة الصحف، تثير ضجيجاً هستيرياً فرحاً بغزو دولة عربية واحتلالها، وبصورة أشد صخباً مما فعلته الصحف ووسائل الإعلام الأميركية ذاتها، بما في ذلك الصحف اليمينية الليكودية الناطقة بلسان المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني النافذ في أميركا!
غير أننا نتذكر معكم أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد كان كل يوم يمر، يزداد تورط قوات الاحتلال الانجلوأميركية في المستنقع العراقي، وها هي النتيجة تصل إلى آلاف القتلى والجرحى الأميركيين، ومئة ألف قتيل عراقي، تناثرت أشلاؤهم فوق الحطام والدمار، الذي خلفته الصواريخ الأميركية والمدرعات البريطانية، بينما تشتت العراقيون ما بين الطوائف المتصارعة دينياً وعرقياً وسياسياً.
اليوم وبعد ثلاث سنوات مريرة، انكشف المستور، وأصبح السؤال الحرج الذي يواجه الرئيس بوش في كل مجال، داخل أميركا قبل خارجها، هو؛ لماذا أعلنت الحرب وغزوت العراق؟! وخصوصاً بعد ثبوت كذب الأسباب السابق إعلانها، وتحديداً نكتة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، فارتدت آلة الإعلام الأميركية الجبارة على بوش توبخه وتنتقده وتتهمه بالكذب في أسباب إعلان الحرب، وبالفشل في تحقيق النجاح وإحراز الانتصار على أشباح المستنقع العراقي، وتطالبه بالتالي بسرعة إنقاذ ما يمكن إنقاذه والانسحاب بعد أن كسف الأمة الأميركية وكشفها!
ربما على النقيض ظلت أحزاب وحكومات وأصوات عربية، تستحسن ما فعله بوش، وتشيد بنجاحاته في العراق، على رغم أن نجاحه الوحيد تمثل في إسقاط نظام صدام حسين المكروه، وتطالبه - للعجب - بإكمال رسالته الإلهية، التي نزلت عليه وحياً من السماء في البيت الأبيض!
وفي حين صدّع الرئيس الأميركي وبطانته هناك وحواريوه هنا، رؤوسنا بإقامة نظام حكم ديمقراطي نموذجي في العراق، يجري تقليده وتعميمه على دول المنطقة، فإن الواقع يقول: لقد فشل هذا الرهان أيضاً كما توقعنا، وها هو العراق يغرق في بحرين متلاطمين، بحر الدماء النازفة كل لحظة، وبحر الخلافات السياسية والصراعات الطائفية الحادة، التي تهدد بتقسيم البلاد وتشتيت العباد، وسط ارتباك أميركي ظاهر، ما اضطر وزيرة خارجية أميركا كوندليزا رايس، إلى الاعتراف بأن بلادها ارتكبت آلاف الأخطاء في العراق، وهو اعتراف جاء للأسف متأخراً للغاية.
ولا شك أن أبرز هذه الأخطاء، أن الاحتلال الأجنبي وممارساته الدموية، قد استقطب كل المتشددين لمقاتلة المحتلين، فتحول العراق، إلى بؤرة للإرهاب المنفلت، جنباً إلى جنب مع المقاومة الوطنية المشروعة، أو تفتت البنية العراقية، واجتاحته رياح الحرب الأهلية الطائفية العرقية، وعاد الوضع العراقي، مصدر إزعاج وتهديد لأمن واستقرار دول الجوار العربية، مثلما كان وربما أشد مما كان أيام صدام حسين. وتمكنت إيران - الجار القوي الطامح - من فرض دورها الفاعل داخل الساحة العراقية سياسياً وعسكرياً وطائفياً، لتواجه وتتحاور مباشرة مع عدوها اللدود الولايات المتحدة، الباحثة عن وسيلة للخروج من المأزق.
وأحسب أن أشد المآزق و«الأخطاء» الحادة التي وقعت فيها السياسة الأميركية، خلال غزوتها وتورطها في العراق بالشكل الذي نشهد نتائجه الآن، هو مأزق «كسوف شمس الديمقراطية وخسوف قمر الحرية» تلك الديمقراطية التي تعهد الرئيس بوش بإقامتها في العراق نموذجاً، يحتذي به باقي العرب «الفسدة والمستبدين المتطرفين المتخلفين»!
وبصرف النظر عن المظاهر الشكلية للديمقراطية، مثل الانتخابات سابقة التجهيز، والدساتير المعدة في حضانات صناعية، فإن أميركا بكل جبروتها لم تنجح في زرع الديمقراطية في العراق على نحو يضمن للعراقيين حريات حقيقية واستقراراً أفضل، مما كانوا عليه تحت ديكتاتورية صدام حسين... أخشى أن يكون قد حدث العكس، ليس فقط داخل العراق، ولكن أيضاً في دول الجوار!
في دول الجوار، ظهرت ردات الفعل العكسية وبرزت الآثار السلبية للفشل الأميركي في تصنيع «النموذج العراقي للديمقراطية الموحى» وتمثل ذلك بصورة واضحة في تباطؤ خطوات الإصلاح وتراجع الحريات وزيادة التضييق الحكومي على نشاط المجتمع المدني، مع المضي قدماً في تزوير الانتخابات «إن جرت» وفي تكبيل حرية الصحافة والرأي بمزيد من القيود والعقوبات السالبة للحرية، وفي إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية في انتهاك حقوق الإنسان... وغير ذلك من السياسات والممارسات، التي كانت الإدارة الأميركية قد أكدت نيتها في الضغط المكثف على الحكومات العربية لتغييرها إلى النقيض!
ولا شك أن الجميع يتذكر الآن، أن الرئيس الأميركي بوش قد تبنى خطة «التبشير بالديمقراطية وفرض الإصلاح» على الحكومات العربية والإسلامية، كوسيلة لمقاومة التطرف والإرهاب، ثم وضع هذه الخطة كمبدأ رئيسي من «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي ذاع وشاع منذ العام 2003 حتى الآن، حاملاً البشارة الديمقراطية للشعوب المقهورة في يد، وحاملاً العصا الغليظة لإلهاب ظهور النظم العربية، التي لا تطبق الإصلاح الديمقراطي في اليد الأخرى.
ومثلما سبق للرأي العام الأميركي والدولي، والعربي خصوصاً، أن تساءل؛ لماذا كانت حرب بوش على العراق، وماذا حققت بعد ثلاث سنوات، عاد الرأي العام نفسه وبمختلف توجهاته يتساءل؛ أين خطة بوش لنشر الديمقراطية، وهل نجحت سياسته في فرض الإصلاح على الحكومات العربية، المتهمة بالفساد والاستبداد، على نحو ما تعهد به في أكثر من خطاب ومناسبة!
والواقع يقرر أن سياسة بوش فشلت علناً، ولم يكن فشلها في الحرب على العراق، بأقل من فشلها في الحرب على الاستبداد، فقد فشلت في تأمين استقرار العراق وإعادة بنائه ديمقراطياً كما كانت تدعي، وفشلت أيضاً في نشر ديمقراطية وفرض الإصلاح على الحكومات المستهدفة في المنطقة العربية، بل نستطيع القول، وفقاً لدراسات أميركية، إن الإدارة في واشنطن، وقد عانت مرارة الحرب في العراق من دون قدرة على الانتصار الحاسم أو الخروج الكريم، بدأت في تخفيف ضغوطها على النظم العربية بشأن الإصلاح الديمقراطي، وفي تغيير تعهداتها السابقة بنشر الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم، ما أصاب العملية كلها بالعطب وربما التوقف، في ظل انتهازية سياسية ومساومات مفضوحة!
والواقع يقرر أيضاً أن الفشل في الحرب على العراق، وعلى الإرهاب، وعلى الاستبداد، لم يكن بسبب قصور أو عدم فهم للحقائق، من جانب السياسة الأميركية فقط، ولكن كذلك بسبب رد الفعل الشعبي الواسع، الرافض للحرب الأميركية على العراق وتدميره وتفتيته بهذا الشكل، والرافض بالقوة نفسها لفرض الرؤية الأميركية للإصلاح الديمقراطي على المجتمعات العربية.
وها نحن نعايش تيارات شعبية ونسمع أصواتاً سياسية وفكرية كثيرة، ترى أن ثلاث سنوات، من الحرب الأميركية على العراق، باسم مكافحة الإرهاب، ومثلها من الضغط الأميركي على النظم العربية، باسم الإصلاح الديمقراطي، قد أفرزت نتيجتين متناقضتين، فقد اتسعت مساحات وتهديدات الإرهاب انطلاقاً من البؤرة العراقية، وارتفع صوت المتشددين، من ناحية، وتم تعويق أو إجهاض المحاولات الوطنية والضغوط الشعبية لإجبار الحكومات العربية على إجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية بأيدينا لا بأيدي أميركا، من ناحية أخرى.
وفي الحالتين، مازلنا للأسف، نعاني من كسوف شمس الديمقراطية، لظواهر فلكية داخلية، ولمتغيرات مناخية خارجية، وعلينا مواجهة هذه الظلمة بمزيد من الإصرار على حقوقنا.
خير الكلام... من ديوان العرب:
مستمسكين بحقٍ قائمين به
إذا تلوّنَ أهلُ الجَورِ ألوانا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1307 - الثلثاء 04 أبريل 2006م الموافق 05 ربيع الاول 1427هـ