العدد 1305 - الأحد 02 أبريل 2006م الموافق 03 ربيع الاول 1427هـ

صورة «إسرائيل» في المشهد الانتخابي (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

سنوات الثمانينات (العقد التاسع) أسست مفارقات في تاريخ الدولة الصهيونية. فهي أخذت تنسحب من الجنوب (سيناء) وتتقدم في الشمال (لبنان) وهي أيضاً تبرر لجمهورها في آن واحد فوائد «السلام» مع مصر، وفوائد الحرب ضد لبنان. وأيضاً كانت الدولة مضطرة إلى إقناع المتطرفين من المستوطنين بأنها لم ترتكب فعل الخيانة بدليل أنها أقدمت على توسيع مشروعات الاستيطان والتوطين في قطاع غزة والضفة الغربية. فالتوسع الاستيطاني في الضفة والقطاع شكل رسالة تطمين لقطاعات واسعة من الجمهور الذي تمرد على الليكود والعمل وانحاز إلى المجموعات الصهيونية العنصرية المتطرفة أو الدينية المتشددة. وفي الآن نفسه، كان على الدولة أن تبحث عن خطاب يتعامل مع موجة «السلام الآن» ويرد على أسئلتها الطارقة بشدة على أبواب جنرالات الحرب.

كل هذا الضغط الداخلي ترافق مع تحولات كثيرة في المنطقة منها صعود قوة المقاومة اللبنانية (حزب الله) في الثمانينات وبروز قوة العراق العسكرية بعد توقف حرب الخليج الأولى مع إيران. وتصادفت هذه التحولات الإقليمية مع متغيرات دولية شهدت بدء تراجع هيبة الاتحاد السوفياتي وغرقه في مستنقع الحرب الأفغانية وكذلك خضوعه إلى الضغوط الأميركية وقبوله بفتح باب الهجرة أمام اليهود «السوفيات» أو الشرقيين (الأوروبيين).

هذه المتغيرات أعادت تشكيل صورة المنطقة وكذلك أسهمت في تكوين هيئة سكانية مختلفة لدولة «إسرائيل» عن تلك البدايات الأولى التي عبرت فترة التأسيس وانتقلت من النظـام الواحد إلى النظام الثنائي (العمل والليكود). في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات استقر مئات آلاف من النازحين الجدد (المهاجرين السوفيات) في أرض فلسطين وكذلك ضربت قوة العراق العسكرية بعد دخوله أرض الكويت (حرب الخليج الثانية) وانتقال القوات الأميركية مباشرة إلى المنطقة العربية. وأضيف إلى كل هذه المستجدات انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة الغرب (النظام العالمي الجديد) وتفرد واشنطن بإدارة الصراع العربي - الإسرائيلي ضمن تصورات وضعتها إدارة البيت الأبيض في عهد جورج بوش (الأب).

المهم في هذه المتغيرات الدولية أنها أنتجت سلسلة توازنات إقليمية وإسرائيلية ومحلية جديدة. فاقليمياً تراجع دور الوكالة الإسرائيلية بانتشار القوات الأميركية في المنطقة ومحيطها. فالولايات المتحدة أصبحت تدير المعارك مباشرة ولم تعد تتكل على «إسرائيل» بل أصبحت الأخيرة تعتمد عليها في إدارتها للصراع وإضعاف المنطقة وتخريب أمنها وتقويض دولها. وإسرائيلياً تشكلت توازنات سياسية أضعفت الأحزاب التي أسست الدولة. فالثنائية التي استقرت عليها «إسرائيل» منذ السبعينات إلى التسعينات لم تعد كافية لاحتواء تعارضات العصبيات الصهيونية التي نزحت حديثاً أو تلك التي استيقظت على هامش مؤسسات الدولة. ومحلياً انتقلت السلطة الفلسطينية من الشتات العربي إلى غزة والضفة تحت سقف «اتفاق أوسلو» الذي لا ينص على سيادة الدولة.

كل هذه المتغيرات أعادت رسم الاستراتيجية الدولية في منطقة «الشرق الأوسط» وأسست لنوع جديد من القوى السياسية سواء على مستوى المساحة العربية أو على مستوى الكيان الصهيوني. عربياً أصبحت الأنظمة ضعيفة وازداد اعتمادها على التوازنات الدولية لضمان استقرارها الداخلي. وعربياً أيضاً ظهرت مجدداً قوة الإسلام الأهلي وبرزت بوضوح شعبية منظماته السياسية. هذه القوة ليست جديدة فهي ممتدة جغرافياً وزمنياً لكنها ظهرت في إطار حديث ابتعد كثيراً عن تلك الصورة التقليدية التي عرفت بها التيارات الإسلامية.

كذلك «إسرائيل» لم تكن بعيدة عن تأثرها بتلك المتغيرات. فهي للمرة الأولى يتعرض كيانها السياسي للاهتزاز لا من حيث ضربات المقاومة للاحتلال وإنما من جهة اختلاف التكوين البشري لهوية الدولة ووظيفتها الأمنية في المنطقة. فهذا الكيان دخل الآن في طور جيله الثالث. فالأول (الجيل المؤسس) تمثل في انفراد حزب العمل بالسلطة من الخمسينات إلى السبعينات. والجيل الثاني تمثل في بروز ثنائية في تمثيل السلطة (تقاسم الوظائف) والتنازع على هوية الدولة. واستمر هذا الحال من السبعينات إلى التسعينات. ومن ذاك الوقت حتى الآن ظهر في الميدان السياسي الجيل الثالث وهو ثلاثي الأبعاد ورباعي وخماسي وربما سداسي التكوين في عصبياته الثقافية.

نمو الاستقطابات السياسية الإسرائيلية على أساس التنافر العصبي بعد مرور 58 سنة على تأسيس الكيان المصطنع، المؤسس على فكرتي الاستيلاء والطرد، مسألة عادية تصيب دائماً «المجتمعات» الاستيطانية. فمثل هذا النوع من الدول الذي يزرع في بيئات جغرافية بعيدة عن منشأ التكتلات النازحة يفتقد تلك اللحمة التاريخية التي تحصنه من عوامل التعرية والتفكك إلى مجموعات تتقاتل على الغنيمة.

الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لا تعني بالضرورة إشارة إلى بداية التفكك وانما تعكس طبيعة المتغيرات البنيوية التي تصاب بها عادة كيانات نهضت مؤسساتها على القوة والطرد والاحتماء بقلاع (مستعمرات) للعدوان على المحيط والتوسع على حساب السكان الأصليين.

نتائج الانتخابات الأخيرة تعطي فكرة سريعة عن المشهد السياسي الإسرائيلي. فالانتخابات كالمرآة تعكس صورة واقع مختلف تنقسم فيه الولاءات إلى «عصبيات» سياسية تتحكم فيها شروط الانتماء إلى عرق أو جنس أو لون أو ثقافة أو لغة. وهذه النتيجة هي مرحلة تمهيدية لمشهد آخر سيظهر في الجيل الرابع.

سابقاً كانت «الدولة الإسرائيلية» تتباهى في الخمسينات والستينات بأنها نجحت في تشكيل قوة عسكرية مؤلفة من 80 جنسية و100 لغة استطاعت أن تهزم قوة عربية مؤلفة من قومية واحدة ولغة واحدة. واليوم وبعد دخول هذه الدولة طور الجيل الثالث أصبحت في وضع أفضل عسكرياً واقتصادياً (رفاهية) الا أنها تاريخياً دخلت فترة «الدعة» بلغة ابن خلدون الاجتماعية. والدعة تعني الضعف والاتكال على قوة الغير (أميركا) لحماية أمنها وهويتها ودولتها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1305 - الأحد 02 أبريل 2006م الموافق 03 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً