مسكينة تلك المرأة التي تظلم نفسها بنفسها لجهلها ولقلة حيلتها ولعدم وعيها بالقوانين التي ربما تعيد لها الحق من جديد، تلك هي حال مدرسات الحضانات ورياض الأطفال، فهذه لم تكن البداية وأتمنى أن تكون النهاية، فقد سبقتها في الضيم والوجع والألم أختها العاملة في مصانع الملابس بعد أن تجرعت كؤوس المرارة وتصارع المحنة بنفسها، بدأ الشارع يتعرف على المشكلة ويتعاطف معها. ولولا الصبر الذي تتمتع به المرأة لما كانت لتستمر في محنتها هذه، إلى جانب الحاجة والعوز اللذين يجعلان من صمود المرأة أمرا محتوما.
محنة هؤلاء عبارة عن خلطة سحرية تشترك فيها عدة أطراف من أجل تحقيق مصالحها، في تجارة رابحة رأس مالها المرأة العاملة. إنها العقلية المادية التي تدير عمليات الربح، على حساب تلك المسكينة، تفرض عليها واجبات ولا تعطى لها غير الفتات من الحقوق، بعدما يجف عرقها و«ينشف ريقها»، وينهك جسدها. حينها يمكن النظر في أمرها أو البحث لها عن أنصاف حلول، أما حين تسكت صبرا على ما ابتليت به، فعلى الدنيا عندها العفا. وبهذا المنطق يتجمع لدى رب العمل الكنز المكنون الذي يعمل على إخفائه عن عاملات رياض الأطفال حتى لا يعين أهمية المطالبة بحقوقهن.
القصة تتخلص في أن مجموعة أطراف تتمثل في وزارة العمل ووزارة التربية والتعليم ممثلة في إدارة التعليم الخاص والتأمينات الاجتماعية إلى جانب أرباب العمل، عملهم أقرب لعمل «العصابة»، وعاملات رياض الأطفال «يا غافلين لكم الله»، وكل طرف يسهم بشكل متفاوت ويختلف عن الآخر في المأساة. والعاملات لا يحق لهن المطالبة بحقوقهن بل عليهن دائما الانصياع إلى الواجبات.
وزارة العمل لديها قوانين للعمل، ولكنها غير مطبقة ميدانيا بل تقتصر في الكثير من الأحيان على التأكد من تطبيق المنشآت المرخص لها قوانين العمل، وكل ما يطبق في الميدان يعد استثناءات لا قانون يحكمها، بمعنى أن العقود الموقعة من قبل العاملة لدى رب العمل تعد اجتهادات شخصية من المنشآت وغير معتمدة من وزارة العمل، وبالتالي «الحسبة ضايعة» فكل رب عمل يفصل العقد على مزاجه ومقاسه الخاص مراعيا مصالحه الخاصة بعيدا عن العدالة أو حتى التوافق بين الطرفين. ونتيجة الحاجة تضطر العاملة إلى القبول بأي شرط، حتى لا تضيع منها الفرصة. على رغم كل ما يلاحق معلمة الروضة من معاناة تعد تلك الوظيفة فرصة! وهو أمر طبيعي في بلد على رغم قلة الكثافة السكانية فإن البطالة تعد من أكبر مشكلاته الاجتماعية. وزارة العمل تريد أن تتنصل من مسئولية التوظيف وبالتالي لا تعقد المسائل حتى لا تطول عندها قوائم العاطلين، ولذلك لا تدقق كثيرا في مثل تلك الأمور.
وزارة التربية والتعليم ممثلة في إدارة التعليم الخاص، غير مقصرة، فهي ترسل اللوائح والقوانين والنشرات بين الفينة والأخرى إلى أرباب العمل، فالعالم لايزال إلى الآن يحترم الورق، كما تنظم زيارات تفتشية بين وقت وآخر، ولكن الإخفاق الذي تقع فيه الوزارة هو أنها عندما تنظم الزيارات لا تكون مفاجئة وبالتالي ينجح رب العمل في إخفاء كل ما يريد عن الوزارة. والسؤال الذي يطرح هنا: هل استراتيجية وزارة التربية سليمة؟ وهل تم تقييم التجربة؟ وهل من الصعوبة بمكان أن تكتشف الوزارة أن الأسلوب المتبع غير صحيح وغير علمي، بدليل أن غالبية رياض الأطفال إذا لم نقل جميعها لديها إحصاءات عدة بعضها يستخدم داخل أروقة المنشأة وبعضها يستخدم في المراسلات كإحصاءات رسمية، وهي بطبيعة الحال غير متطابقة بل مخالفة للقوانين بشكل صارخ، فالروضة على سبيل المثال المصرح لها باحتضان 50 طفلا نجدها تضم 100 طفل وربما أكثر. والصف حينها الذي من المفترض يضم 10 أطفال قد يحتضن 20، وإذا استمرت الوزارة في الزيارات المعلنة، فإنها تقر بأنها لا تستقرئ ولا تحلل، بدليل أن غالبية الصفوف فيها ما يقارب الـ 20 مقعدا، وعند الزيارة يتم عد الأطفال الموجودين فقط بعيدا عن التساؤل عن أعداد الكراسي، كما يتم إخفاء الأطفال أنفسهم أثناء الزيارة «تهريب من نوع آخر».
أمر آخر، تصر الوزارة أثناء زيارة الصفوف على مصاحبة مديرة الروضة، في حين المفترض أن تكون برفقة أي شخص حيادي حتى لا تبرر ما يتم العثور عليه من ملاحظات. الأمر الحسن أن الوزارة تهتم بجانب التنمية المهنية لمعلمات الرياض من خلال توفير البرامج التدريبية، ولكن للأسف في كثير من الأحيان لا تستفيد منها هذه المعلمات، لأن رب العمل يخفي ذلك عن المعلمات بحجة أن راتب المعلمة يكون مدفوعا، وبالتالي عليها أن تحضر الدوام كاملا. وفي حال السماح لهن بحضور الدورات فلا بد لرب العمل من تعويض ذلك بمعلمة أخرى وبالتالي دفع أجر اليوم مرتين، من هنا يكتب على المعلمة الجمود.
لوائح ونشرات الوزارة غالبا لا تصل المعلمات ولا يعلمن بها، فملاذها الأخير الأدراج، وذلك لعدة أسباب، من بينها ألا تعي العاملة بحقوقها، على رغم توافر لوحة الإعلانات. فهل تعلم الوزارة من خلال فريق التفتيش أن الميدان يفتقد نشراتها، وأن عليها أن تستحدث أسلوبا آخر حتى تستطيع تجاوز ظلم أرباب العمل، كأن تقوم بإرسال نسخ منها على العناوين الخاصة للمعلمات، أم أن الوزارة نفسها لا تمتلك بيانات دقيقة أو حتى غير دقيقة عنهن؟ وهل تعلم الوزارة أن أرباب العمل يمارسون أسلوب التضليل نفسه من خلال القوائم التي لا تحمل أرقاما حقيقية عن أعداد العاملي، في تزييف مقنن، لتبدو من أفضل المنشآت!
وللتأمينات الاجتماعية قصة أخرى من قصص الظلم والحيف، فليس لديها حسبة خاصة عند التعامل مع معلمات رياض الأطفال، فالمعلمات اللاتي عملن 20 عاما مثلا يجدن أنفسهن مؤمنا لهن فقط مقابل 11 سنة فقط، وغيرها من قصص غربية، إذ عليهن الالتزام وفق العقد المبرم، أي عمل 12 شهراً متصلة من دون انقطاع حتى يحصلن على الشهر 13 إجازة براتب، في حين يبذلن قصارى جهدهن في سبيل نيل ذلك ويفاجأن بأنهن لا يحصلن فعلاً على إجازة شهر، والراتب الذي يحصلن عليه يكون مقتطعا، علاوة على أن معلمة الروضة لا يحق لها أن تحمل أو تلد، وإن حدث ذلك لا يحق لها أن تحصل على إجازة أمومة، وإذا حصل ذلك تبقى على قائمة الانتظار في سبيل أن يحصل لإحدى زميلاتها الأمر نفسه، وبالتالي تستطيع أن تحل مكانها، وطبعا طوال فترة الانتظار ليس لها راتب، بل ويتوقف التأمين عليها. ومعنى ذلك أن عليها أن تتنازل عن أنوثتها حتى لا يكتب عليها الشقاء الأبدي.
أتعجب من كل ما يجري، فهل نحن في علم أم في حلم؟ فهل يعقل مثلا أن تحرم المعلمة من ممارسة حقها الطبيعي في أن تكون أما وموظفة في آن؟ وإذا كان ذلك من حقها فمن ذا الذي يتسبب في عرقلته؟ وإذا كان الزواج والحمل عائقا وإجازة الأمومة تربك عمل رياض الأطفال، فلماذا الإصرار على أن تدار هذه الرياض من قبل إناث؟ لماذا لا يكون ذلك من قبل الرجال؟ وإذا كانت النساء أولى من يعملن بها نظرا لطبيعة الوظيفة ولقدرة المرأة على ممارسة هذا الدور، فلماذا لا ينظر إلى ظروف المرأة أصلا؟ وهل عليها أن تختار بين ممارسة دورها الطبيعي أو المهنة على حساب أدوارها الاجتماعية؟
أتصور انها معادلة صعبة التحقيق، والأسهل هو وضع حلول معينة من خلال اجتماع الأطراف المعنية، والابتعاد عن العقلية التجارية المادية، لأنها بعيدة عن جوهر الإنسانية، والتعامل مع الإنسان وكأنه آلة للإنتاج فقط بعيدا عن مشاعره واحساسيه. القصة تتلخص في رواتب متدنية تبدأ من 40 دينارا، ودوام طويل يصل إلى سبع ساعات، ومسئوليات كثيرة متشعبة، تدريس ورعاية للأطفال، إلى جانب مهمات إدارية ولجان، ومسئوليات خارج الدوام الرسمي، لا راتب في الإجازات الرسمية، لا فرص للتدريب أو الترقية، وعقود عمل مؤقتة... بمعنى آخر هموم بالجملة ولا حياة لمن تنادي.
معلمة الرياض على رغم كل ذلك، أكدت إخلاصها لمهنتها، بدليل أن طفل الروضة عندما يصل إلى المدرسة يختلف في الفهم والتعاطي مع المدرسة بشكل يختلف كلية عن الطفل الذي لم يدخل الروضة، كما يثبت تفوقه.
وزارة العمل ووزارة التربية، عليهما إعادة النظر في الإشراف ومتابعة الرياض. أرباب العمل عليهم إعادة النظر في أسلوب التعاطي مع مشكلات المعلمات والعاملات، وإعادة الحسابات من جديد، فلاتزال هناك حلول لمشروعات رياض الأطفال، فالذي لا يستطيع تحقيق الأرباح الخيالية عليه أن يتأخذ قراره من اليوم بالإغلاق.
أعتقد أن عاملات رياض الأطفال عليهن اليوم وليس غدا الاستيقاظ من نومهن، والتكاتف والاتحاد، والالتفاف حول نقابتهن التي تأسست حديثا، وعليهن أن يتذكرن أنه «ما يحك جلدك مثل ظفرك». المطالبة بالحقوق ليست أمرا مستهجنا، وعلينا إشاعة ثقافة المطالبة بالحق، «فالساكت عن الحق شيطان أخرس». وعليهن وضع خطة عمل متكاملة بما فيها الإجراءات التي يجب القيام بها في سبيل قضيتهن، والتأكد من أن الخطأ الذي وقعن فيه طوال السنوات الماضية هو السكوت، فلا أحد يعلم بوجع وألم الآخر إذا كان صاحب الألم لا يتأوه، وبالتالي يتمادى الظالم. الاتحاد العام لعمال البحرين عليه أيضا مهمة تحريك القضية ودعمها بشكل يتناسب مع حجمها
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1305 - الأحد 02 أبريل 2006م الموافق 03 ربيع الاول 1427هـ