دولة «إسرائيل» إذاً تعيش وتنمو ويحافظ عليها في فلسطين المحتلة بتوافق دولي (أميركي - أوروبي) لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بحاجة الدول الكبرى إلى موقع جغرافي/ سياسي في دائرة استراتيجية يطلق عليها الآن «الشرق الأوسط الكبير» أو شعوب «مينا». ومنها حاجة شركات النفط ومؤسسات التصنيع العسكري إلى موقع في منطقة تتمتع بمصادر هائلة من الخامات التي ترفد الاقتصاد العالمي بالطاقة. ومنها أيضاً تتشكل من هذه النقطة محطة انطلاق لاضعاف المنطقة العربية - الإسلامية واشغالها في معارك جزئية (محلية) أو حدودية أو حروب كبرى تتدخل فيها الولايات المتحدة في سياق تحولات كونية كما حصل في تسعينات القرن الماضي.
مثل هكذا وظائف لدولة مصطنعة تحتاج دائماً إلى رعاية وحماية ومساعدات دائمة مهما كانت الذرائع الايديولوجية التي تستخدمها الدول الكبرى أمام الناخب المحلي ودافع الضرائب لتبرير هذا الانفاق الهائل على «إسرائيل». فهذه الدولة لها وظيفة اطلسية ودورها متشعب في مهماته سواء تلك المتعلقة بخصوصيات تتصل بعقائد تلمودية أو تلك السياسات الاضطهادية التي مارستها أوروبا تقليدياً ضد الأقليات اليهودية من فترة الاحياء المنعزلة (الفيتو) ومطاردتهم وطردهم إلى المذابح المعاصرة التي ارتكبتها النازية في عهد هتلر.
هذه الدولة إذاً هي حاجة اطلسية تأسست في نسق سياسي توافق ثقافياً مع نهوض الفكرة القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. وبسبب هذه الحاجة نشأت وظائف متبادلة بين الصهيونية والانتداب البريطاني، ثم تطورت تلك الوظائف بعد تأسيس الدولة في نهاية الأربعينات وخروج المستعمر الأوروبي من بلاد الشام والعراق ومصر.
في البداية لم تظهر عوارض التفكك العصبي في جيل الدولة الأول (المؤسس). فآنذاك نجح حزب العمل بالتحالف مع الهستدروت أو نقابات الكيبوتز (عمال المستوطنات) في الانفراد بقيادة هذا الكيان وإدخاله في حروب ضد الجيران وتوسيع حدود الجغرافيا على حساب دول الجوار. فهذا الحزب (المؤسس) نجح في تطوير مفهوم المواطن من خلال ادماجه في نظرية الأمن وهي تتطلب حالات دائمة من التعبئة النفسية (الثقافية والايديولوجية) والاستنفار ضد مخاطر تهدد وجوده من الجيران (العرب المسلمين). وتحت هذه السياسة التحريضية (التخويف من الآخر) سجلت الدولة سلسلة مكاسب بدعم بريطاني ثم فرنسي ثم ألماني وأميركي في معارك السويس وحرب يونيو/ حزيران 1967.
لم يتوقف حزب العمل عن تمثيل روح «الدولة وادعاء حصرية الدفاع عن «هويتها المصطنعة» إلا بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فتلك الحرب أسست لظهور نوع من التمثيل الثنائي (الاكثري/ النسبي) بين العمل والليكود.
حرب أكتوبر كشفت ذاك الضعف البنيوي وأظهرت عجز هذه الدولة «المتهالكة» عن الصمود من دون مساعدة عسكرية مباشرة من الولايات المتحدة ورعاية دولية مالية ودبلوماسية تضمن استقرارها. فبعد أكتوبر سيتزايد اعتماد هذه «الدولة النموذجية»، كما تقول الدعاية الإعلامية الغربية، على الخارج كما أنها ستضطر إلى اعتماد سياسة ثنائية (تقاسم السلطة) في تمثيل «هوية» الدولة.
«الليكود» قوة سياسية كانت موجودة سابقاً ولكنها لم تنجح في منافسة «العمل» الذي اكتسب شرعية التأسيس وحماية الدولة وتعزيز ايديولوجية دفاعية اعطت صورة مغايرة عن تلك النمطية التي درج الإعلام الأوروبي على تقديمها للقارئ. فاليهودي كان يمثل قبل قيام «إسرائيل» في العقل الجمعي الأوروبي صورة الشخص البخيل والجبان والانتهازي والمتآمر فجاءت «الدولة» بقيادة حزب العمل لتقدم صورة مخالفة للنمطية المتداولة في أوروبا. فاليهودي الآن يملك قوة عسكرية قادرة على انزال الهزائم المتتالية بكميات هائلة من الدول العربية المحيطة بدولة «صغيرة» و«مسكينة». وبسبب تلك الانتصارات اكتسبت «إسرائيل» سمعة عدلت الكثير من الصور النمطية.
هذه الصورة البديلة انكسرت قليلاً بعد حرب أكتوبر وبات على الغرب الأميركي وبالتعاون مع «العمل» ان يعيد ترميمها وتلميعها مجدداً من خلال زيادة المساعدات وتوسيع دائرة المهاجرين (يهود أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي سابقاً) وترتيب علاقة داخلية تعطي فرصة لحزب الليكود لقيادة الدولة ضمن منهج أكثر تطرفاً وعداونية.
وهكذا انتقلت «إسرائيل» من مرحلة انفراد العمل بقيادة الدولة إلى مرحلة ثنائية السلطة. فمرة يفوز الليكود مستفيداً من «التقصير» الذي حصل في حرب أكتوبر ومرة يفوز «العمل» مستفيداً من سمعته التقليدية ومرة يقود العمل «حكومة ثنائية» ومرة يقود الليكود «حكومة ثنائية». استمر هذا التبادل والتناوب بين الطرفين طوال الثمانينات وصولاً إلى التسعينات.
في الثمانينات حصلت تطورات كثيرة منها اضطرار حكومة الليكود بقيادة المتطرف مناحيم بيغن الانسحاب من سيناء وتفكيك المستوطنات بعد التوقيع على اتفاقات «كامب ديفيد» مع الرئيس المصري أنور السادات. هذا الانسحاب أدى إلى نهوض فكرتين: الأولى بروز تيار ديني متشدد من وسط المستوطنات يتهم الليكود والعمل بخيانة المستوطنين. والثانية الاتجاه للتعويض عن الخسائر في مساحة سيناء بتوسيع دائرة الاعتداءات على لبنان وصولاً إلى اجتياحه في العام 1982.
اجتياح لبنان أسهم بدوره في توليد حركتين متضادتين: الأولى: نهوض مقاومة وطنية إسلامية لبنانية لمواجهة الاحتلال مستفيدة من تجارب سابقة قادتها المقاومة الفلسطينية من الجنوب. والثانية: نهوض معارضة سياسية للحروب العدوانية الإسرائيلية الدائمة على الدول المجاورة وعرفت تلك الظاهرة باسم حركة «السلام الآن».
حركة «السلام الآن» كانت جديدة على العقل الجمعي الصهيوني الذي أسس وسيطر على الدولة منذ قيامها في العام 1948 فهي كانت تطالب بإلغاء الدور والوظيفة لكيان لا يمكن أن يستمر من دون كراهية الآخر والتخويف من المحيط. وهذا الشيء الجديد خرج من عباءة حزب العمل ومجموعات صهيونية (يسارية) اطلقت عليها اسم «الفهود السود».
«الفهود السود» حركة اعتبرت دائماً أنها جاءت من خارج سياق تشكل المؤسسات الصهيونية ولذلك تم التعامل معها كمجموعات «طائشة» لا تعرف دينها ولا هويتها. بينما «السلام الآن» كانت حركة تمتلك شرعية صهيونية بصفتها تشكلت من قوى منظمة وغير مشكوك في صحة ولائها للدولة ومشروعها. وهذا المؤشر دل على بداية طور جديد دخلت فيه البنية الاجتماعية للهوية المشتركة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1304 - السبت 01 أبريل 2006م الموافق 02 ربيع الاول 1427هـ