استكمالاً لوجهة النظر التي ضمناها مقالة السبت الماضي والمتعلقة بالطائفية، من حيث هي اشتباك طائفي مفتعل جاء انعكاسا لتداعيات إقليمية، وغدت عنوانا لحركة كسلى لم يعرف عنها في يوم مداومتها على مطالب وطنية مثل الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. لا، بل وكانت من بعض زوايا نظرها إليها تنطلق باتجاهات معاكسة لما تطرحه السلطة والمعارضة في آن. فأحالت الواقع من بعد أن كان شعلة نشاط تنتقل بين أياد ليبرالية وقومية وماركسية وبعثية وديمقراطيين مستقلين، إلى صورة نمطية مرتبكة لحراك سياسي كسيح اختلط فيه الدين بالسياسة، وبانت، يمكن بسبب ذلك، الطائفية واختفت الوطنية، ليتوقف بذلك عمل وطني متراكم من النضال المجتمعي الصاخب حينا، والهادئ أحيانا، والساعي إلى الوئام الوطني والديمقراطية في كل الأحايين.
وطرقا لأبواب الحل المرتجى لوقف مثل هذا الجنون الذي يقود إلى انتشار الطائفية لتغدو سلوكا معجونا بالعادية في تصرفات الناس، نقول إن أولى العلامات التي تشير إلى أن هناك شرا مضمرا بالمجتمع يلهب لحمته الوطنية تقطيعا وتفتيتا، هو حين تكون الطائفة جسر العلاقة بين المواطن والدولة، بعد أن كانت المظلة التي يلتجئ إليها منتموها المذهبيون طلبا لحاجات لم توفرها الدولة، وبذلك تتحول الدولة إلى مركز استقطاب طائفي كل يسعى للسيطرة عليها، أو التأثير في سلطتها القائمة ليطوع خيراتها وسلطاتها لطائفته.
ومن هنا يأتي القول بتعميم التسامح والمواطنة والمساواة في العمل السياسي، وما تفضي إليه نتائجه، من مقتضى الحاجة الوطنية، ومن قبيل الاستعداد لمواجهة هذا التقطيع والتفتيت. ذلك أن المواطنة من حيث هي إطار قانوني مرجعي، هي الضمانة لشيوع المساواة، وهي الدائرة التي لا تتسع إلا بالقدر الذي يحفها من التسامح، ما يعني أن التسامح هو الشمس التي يتخذها كل من المواطنة والمساواة مركزا للدوران حولها. فإذا ما وقف التعصب، وهو أحد تجليات الطائفية، في وجه التسامح وحال دون شيوعه كقاعدة مجتمعية تنبني عليها العلاقة بين الناس بعضهم بعضاً، وبين الناس والحكومة، فإن ذلك يعني تغييبا لمبدأ المواطنة. وينبغي القول، في هذا الإطار، ان شيوع مفردات من مثل التسامح والمواطنة والمساواة في البيئة المجتمعية من ضرورات الإزاحة الحتمية للتمييز المبني على جنس الانسان وعرقه وسلالته ومكانته ووجاهة عائلته القاصرة عن احتواء أشواق الناس في توزيع عادل للثروة. إذاً، فالتسامح هو أول متطلبات الاستقامة المجتمعية والسلوك الحسن المفضي إلى معطى ضروري من معطيات التطور السليم.
في هذا السياق، أراني منجذبا إلى فكرة العبور التاريخي السريع لنشأة مفاهيم المواطنة والدولة لما لها من أهمية في التوضيح، وأقول انه إذا ما اقتفينا سيرة الدولة الحديثة في التاريخ نشأة وتطوراً، فلن يفوتنا رصد مسعى الإنسان في تثبيت أسس العدل والمساواة في دولة المدينة عند الإغريق، الذين نجحوا في تثبيتها على قاعدة المواطنة بين الأفراد المتساويين. وقد كان لذلك المسعى التأثير المباشر على استقرار المجتمع. فمتطلب العيش في بيئة اجتماعية معافاة من أمراض التمييز وعدم المساواة تقتضي قراءة التاريخ والاستفادة من دروسه، وهي مهمة ليست يسيرة ولكنها ضرورية للوقوف على منحنى التطور وتأمل محطاته. وهذا ما تم بالفعل عندما اتخذ مبدأ المواطنة مرتكزا لبناء الدولة القومية ولتأسيس نظم سياسية فاعلة حققت قدرا متزايدا من الاندماج الوطني والمشاركة السياسية الفعالة وحكم القانون، كما يقول علي خليفة الكواري في كتاب «المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية».
فنحن في المملكة، حكومة ومؤسسات مجتمع مدني، ملزمون وطنيا بتوفير مناخ سياسي وقانوني وثقافي صحي يضمن تطبيقا سلسا لمفهوم المواطنة، يأخذ في الحسبان ما آلت إليه العلاقات الاجتماعية بين الناس في المجتمعات المتطورة والمجتمعات التي مازالت تقبع أسيرة أنماط العيش القبائلي، مستفيدين مما أفرزته تجارب تلك الأمم في تطبيقاتها لمفهوم المواطنة وتجاوزها لأزماتها وتوتراتها الداخلية باعتبارها حلا قانونيا يفترض أن يكون مرضيا ضد خروقات الطائفية والطائفيين. ذلك أن المواطنة، بما تشكله، من شخصية اعتبارية لها حقوق وواجبات، تتخذ موقعا مركزيا في الفكر القانوني والدستور المعاصر.
والأمر الذي لابد من إدراكه هو أن مفهوم الدستور ذاته لا يكون ذا معنى إذا لم يتضمن حقوق المواطنة، وإن غيابها أو عدم وضوحها أو خرقها في ما خلا من سنين، وفي كل المجتمعات الحية، كان سببا في اضطراب الوئام الوطني وكسرا لوحدته الوطنية وبروز أورام مجتمعية تقتضي الضرورة استئصالها بمزيد من الدعم الحكومي لمبدأ المواطنة، والدعم المجتمعي لمبدأ التسامح.
وفي تصوري، انه مهما أظهرت التجربة الديمقراطية، أي تجربة، من شبهات النجاح من دون الارتكاز على ما أشرنا إليه من قيم التسامح والمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، فإنها محكومة، زمنا ومكانا، بالفشل، وهذه، في ظني، حتمية تاريخية
العدد 1303 - الجمعة 31 مارس 2006م الموافق 01 ربيع الاول 1427هـ