العدد 1303 - الجمعة 31 مارس 2006م الموافق 01 ربيع الاول 1427هـ

إلى الشباب... نداء القلب والعقل

الحديث الثالث لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة...

حان الوقت للانتقال من ترداد المقولات النظرية بشأن مكانة الشباب وأهيمتهم البالغة في مجتمعاتنا باعتبارهم نصف الحاضر وكل المستقبل - وهي مقولات صحيحة تماماً - إلى مباشرة ما يمكن أن نعمله ونقدمه لهم من خطط وبرامج عملية تركز على معالجة مختلف المشكلات، والاحتياجات التي يحسون بها، واستطلاع الإمكانات والآفاق المتاحة في عصرنا للأجيال الشابة وكيف يمكن أن نساعدهم على اقتناصها وارتيادها بالتربية والتعليم والتدريب في مشروع متكامل وفي تقديرنا فإن أي نظام تربوي وتدريبي لن يستطيع مواكبة حركة العصر مع تحصين هوية الأمة إلا إذا أقيم على الأسس الآتية:

أولاً: تربية النشء على ثوابت الهوية الحضارية لتراثه الإسلامي السمح، وعروبته المنفتحة على الجميع، وكيانه الوطني البحريني كنموذج إنساني نعتز به للتعايش والتسامح والتحاور الذي لم يتوقف في البحرين باعتبارها منارة إشعاع في خدمة جوارها الحيوي، وبما يرسخ الولاء الوطني لدى أجيالنا الشابة.

ثانياً: وانطلاقاً من هذه الثوابت، تزويد النشء بمبادئ ثقافة عامة في التطور الحضاري للإنسانية وأهم منطلقاته، بما يزرع التفكير العلمي والعقلي السليم لدى الشباب ويعزز نضجه السياسي، وهو زاد عقلاني وتنويري لا غنى عنه لمن يواجه حاضر العالم ومستقبله، فمن أوجب الأولويات «تحديث العقول» في هذه المرحلة، وعدم الاقتصار على التحديث المادي. فإلمام النشء بتقنية المعلومات حتمي، ولكن لابد من موازنته بثقافة في الإنسانيات، ليمتلك توليفة الإبداع بين العلوم والآداب اللازمة لنجاح أي مشروع لتطوير الحياة. كما أن انشطار العقل بين التكنولوجيا وفراغ الفكر لا تؤتمن عواقبه.

ثالثاً: الإعداد المهني المتقدم والمجزي، والذي لا يستلزم بالضرورة الدراسة الجامعية إلا للمستعدين لها، وذلك لتلبية الطلب في سوق العمل الذي أصبحت مخرجات التربية في العالم المتقدم تضعه في مقدمة أهدافها.

هذه هي المهمة الأساسية التي كلفنا بها المختصين في حكومتنا وجميع المسئولين عن القطاعات الشبابية سواء في التربية، أو سوق العمل، أو الحياة الرياضية، أو ميدان الإعداد السياسي الديمقراطي الذي لا نريد أن يبقى شبابنا بمنأى عنه، حيث نؤمن بقوة أن سلامة أداء مؤسساتنا الدستورية ومنظمات مجتمعنا المدني تعتمد على المشاركة الإيجابية للشباب الناضج والمسئول كدماء جديدة وطاقات وطنية مخلصة إلى جانب خبرات المجربين في مسيرة البناء الوطني، وذلك ما استنه دستور مملكة البحرين بإنشاء مجلسي النواب والشورى للجمع بين تطلعات الشباب وخبرات آبائهم بما يتيح للوطن والشعب الاستفادة المثلى من دمج الحماسة بالخبرة، والأفكار الجديدة بالتجربة المتراكمة وهو ما سعت وتسعى إليه كافة المجتمعات والدول المتقدمة لبناء مستقبلها الأفضل.

لابد من تعبئة الشباب لمثل هذه الغاية الوطنية الشاملة، وذلك للحيلولة دون استغلالهم وقوداً للمصالح والأغراض في تجارب مريرة يحفل بها التاريخ القديم والحديث، فليس أبرأ من الشاب الغض في الاندفاع من أجل مبادئ العدالة والحرية والحق، والتضحية من أجلها، فلنجعل اندفاعه البريء والمخلص من أجل هذه المبادئ السامية اندفاعاً مثمراً من أجل وطنه ومستقبله، فوق كل شيء. وتجمع الدراسات المختصة على أن الشباب في سن المراهقة تتملكه الرغبة في التمرد والإضرار بالغير، ما لم يعامل بأقصى درجات التفهم والحزم المتعاطف، أما إذا تم استغلال هذه النزعة لديه لأغراض غير أمينة، فإن المتضرر الأول هو الشاب نفسه في تعليمه ومستقبله بما يدمي قلب والديه وأهله، ويضر بالشعب والمشروعات الهادفة إلى تحسين مستوى معيشته، وبالوطن والخطط الموضوعة من أجل تنميته وتقدمه. وليس أصعب على النفس من توقيف شاب بعيداً عن أسرته أو مدرسته، وطالما لجأنا إلى نهج العفو لتحاشي ذلك، ولكن القانون سياج الحرية، وإذا انتهك القانون فالحرية في خطر، نعني حرية الشعب بأكمله، وذلك ما لا يمكن التراخي فيه، ومن أهم مفاهيم التثقيف السياسي لشبابنا ترسيخ هذا المفهوم لديهم صوناً لديمقراطيتنا ذاتها وصوناً لمستقبلنا. ويتصل بهذا المفهوم اتصالاً وثيقاً، بل ويتكامل معه، ما ينبغي أن تتعاون عليه المدرسة مع البيت للارتقاء بالتثقيف المدني، ونعني به ترسيخ السلوكيات المدنية وقيمها من حيث تعويد النشء على الانضباط والتقيد بالنظام العام وقواعد المرور على سبيل المثال في مختلف المواضع، وكذلك المحافظة على سلامة المرافق العامة من مؤسسات وممتلكات وحدائق وإنارة. فبمثل هذه السلوكيات يحكم على تقدم الشعوب ورقيها ونصيبها من التمدن. وقد قطع مجتمعنا المدني البحريني شوطاً بعيداً في تمثل ذلك منذ بداية نهضته الحديثة، وعلينا بذل المزيد من أجل تنشئة أجيالنا الشابة على التقيد بلوازم هذا السلوك المتحضر الذي لا غنى عنه لأي بلد يريد أن تكون له مكانة في العالم المتقدم.

وعبر تراث البحرين التاريخي، نجد أن الشباب المسلم كان رصيد الدعوة الإسلامية التي قبلتها البحرين طوعاً وسلماً منذ العهد النبوي الكريم، كما كان بذور الخير والعطاء في العصور الإسلامية الأولى وكان مؤشراً على وعي متجدد أن تتضمن استراتيجيتنا الوطنية للشباب 2005 - 2009 المناداة بـ: «استعادة الدور التنويري الريادي للمسجد في الإسلام كمكان للعبادة ولنشر الوعي والعلم» ونضيف إلى ذلك: مع الحرص على تنزيهه عن الأغراض السياسية الحزبية والشخصية المناقضة لجوهر رسالته.

وعندما تعرضت البلاد للاستعمار الأجنبي، منذ الغزو البرتغالي، هب الشباب للدفاع عن وطنه وتحريره من التحكم الغريب بكل أنواعه ومن أي جهة كان، وصدق الله تعالى، إذ يقول «إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى» وصولاً إلى حركات النضال الوطني المشرف في القرن العشرين والتي تتوجت بإجماع شعب البحرين في مدنه وقراه، على استقلال البلاد وعروبتها في ظل نظامها الخليفي الشرعي الذي وفقنا الله، بدعم شعبنا وتأييده، إلى تشييد صرح الدولة العصرية في مرحلة الملكية الدستورية التي ترسخت ببيعة الاستفتاء الشعبي العام على «الميثاق الوطني» الذي نتج عنه دستور مملكة البحرين المحدث.

وعبر هذا التطور النضالي، الوطني والدستوري، كان شبابنا بإرادته الوطنية الحرة، يواجه ويتجاوز مؤثرات الولاءات الخارجية الايديولوجية التي طبعت معظم العقود في القرن المنصرم، وأصبحنا اليوم أمام استحقاق الولاء الوطني الذي لا خيار أمامنا غيره، من أجل بناء بحرين الغد، لكل بحريني وبحرينية.

وقد كان شبابنا إلى يوم قريب يعيش ليومه ولحظته، دون أفق واضح، ولكن مشروعنا الإصلاحي الوطني اليوم قد فتح أمامه الطريق لصنع المستقبل الأفضل عبر قنوات من الجهد المنتج المؤدي إلى تزويده بالوعي والكفاءة، سواء في المجال المهني، أو في المجال العام، مجال الخدمة الوطنية، الذي يمكن أن يعده للمشاركة في الانتخابات، عندما يتأهل قانونياً لها، فيضع كفاءته وطاقته، ليس من أجل بلده فحسب، بل لتبوء المكانة القيادية التي يستحقها بتلك الكفاءة. وطالما آمنا أن أسعد البلدان، وأكثرها حظاً، هي التي يشارك الشباب بإصرارهم على التجديد والتغيير، إلى جانب الآباء المجربين، لأنهم يمثلون بذلك الرصيد والضمانة للتعامل مع تحديات المستقبل، عندما تدق ساعة المسئولية الكاملة، بكل ما تحمله من فرص. وهذا ما انتظره من شباب البحرين ولنا موعد قريب معه بحول الله لتسليمه المزيد من مسئوليات القيادة في العمل والبناء الوطني ومجال الخدمة العامة.

وإذا كانت الشواهد الملموسة من إنجازات شبابنا البحريني، من الجنسين، تقدم الدليل الحي على القدرات الكامنة في شباب وشابات هذا الوطن، فإن لنا أن نستبشر خيراً بما يستطيع شبابنا أن يقدمه ويضيفه إلى منجزاته في مجال القيادة والخدمة الوطنية.

ففي المجال العلمي وما يرتبط به من بعوث إلى معاهد العلم المتقدمة العليا، نجد شبابنا في المقدمة ويثبتون من الطاقات العلمية ما يدفع تلك المعاهد إلى متابعة عطائه باهتمام بالغ لن يزيد على اهتمام وطنه به بإذن الله، وفي مجال الإنجازات الرياضية الدولية، فإن شباب البحرين فرقاً وأفراداً، صاروا يحتلون المراتب العليا أمام أنظار العالم ورغم شدة المنافسات الدولية في مختلف حقول الرياضة، حيث تمتلك الدول الكبيرة مختلف الإمكانات اللامحدودة لدعم رياضييها.

وعلى صعيد الوعي السياسي، فلقد وجدت شخصياً أن تجربة «برلمان الشباب» من تلفزيون البحرين ينبغي أن تشجع وأن تمد بالتفاؤل والأمل ليس العاملين في الحقل الشبابي فحسب، وإنما قيادات الدولة التي تعنى بمستقبل الشباب وتعزيز ولائه الوطني وتعظيم دوره في مسيرتنا السياسية الديمقراطية، فما ورد فيه من آراء نيرة، وبأسلوب متحضر هو موضع اعتزازنا بمدى الوعي الذي يمكن أن يصل إليه شبابنا البحريني من البنين والبنات. وعلى صعيد آخر فقد سررت بالتوجه إلى توثيق قصص نجاح الشباب والشابات بالأفلام وغيرها في ميادين العمل لتصبح قدوة لجيلهم ومن سيأتي بعدهم فهذه النماذج المشعة في مجتمعنا البحريني ليست بالقليلة، وما أجدرنا بتسجيلها وتأملها.

ونحن نشاطر الرأي أكثر المواطنين أن شبابنا في هذا الزمن لم يعد يجد أمامه تلك المساحات والفضاءات المفتوحة، في مدنه وقراه لينطلق فيها على سجيته ويزاول الألعاب والرياضات العفوية التي كان جيلنا ينفس من خلالها عن طاقاته الشبابية، وذلك بالنظر إلى الازدحام العمراني والمروري والتجاري الذي هو ضريبة التنمية والتحديث مثلما جرى لمعظم مجتمعات العالم، وخاصة عالم الدول النامية.

غير أننا، ومنذ البداية قد فكرنا ملياً فيما يمكن أن نحققه للشباب في مناطقهم وأحيائهم من وسائل للترفيه البريء والرياضات النافعة، وكان هذا من أهم أولوياتنا الإصلاحية في الحقل الاجتماعي ومازالت البرامج والخطط لتحقيقه موضع المتابعة والاهتمام والرعاية ليعم ذلك كل أنحاء البلاد، ويجد فيه شبابها ما يفتقدونه من فرص التسلية والانطلاق العفوي غير متغافلين عما يتعرض له البعض منهم من محاذير المخدرات وأشباهها، وما تجلبه من آثار مدمرة على حياة الفرد والجماعة.

وعلينا ألا نتظاهر بخلو مجتمعنا من مثل هذه المشكلات الخطيرة التي تواجه الشباب، بل لابد من اعتماد نهج المكاشفة والمصارحة والمقاربة العلمية في تشخصيها ووضع الحلول اللازمة لها. فبمثل هذا النهج الشفاف يعالج العالم المتقدم اليوم مختلف مشكلاته. أما تجاهلها فلن يزيدها إلا تعقيداً. كما أن ما يسميه الباحثون في شئون الشباب بالفجوة بين الأجيال - والبعض يبالغ بتسميتها «صراع الأجيال» هي من الظواهر القائمة في الحياة أياً كان اسمها، وينبغي مراعاة أعراضها حفاظاً على التواصل مع شبابنا في الأسرة والمجتمع فلقد خلقوا لزمن غير زماننا، وهم أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم كما تقول الحكمة الصائبة، وقد تأثرت بالغ التأثر لما أظهره شبابنا من روح عالية في قمة «فيصل» للشباب، هذا الشاب الذي ترك لوطنه ذكراه الطيبة، وأتفق معهم على أن لدى الشباب ما يعلمونه للكبار أحياناً.

ولا يقتصر اهتمامنا بالنسبة لنفسية شبابنا وشاباتنا على هذه الجوانب العملية، التي لابد منها بطبيعة الحال، ولكنا ننظر إلى أبعد من ذلك وأعمق. فنحن حريصون كل الحرص على أن يشعر شباب البحرين بـ «فرح الحياة» الذي هو حق طبيعي لنفوسهم الغضة، وأن تعود الابتسامة إلى وجوههم الذي هو وجه المستقبل في بلادنا. ولن ندخر وسعاً من أجل نشر هذه الابتسامة المشرقة على وجه كل شاب بحريني وكل شابة بحرينية. ولابد أن تشاركنا مختلف الفعاليات المؤثرة من آباء وأمهات ومدارس وجمعيات مدنية ومؤسسات مختصة من أجل هذه الابتسامة الغالية... ابتسامة المستقبل.

وفي الختام، فنحن على ثقة أن غالبية شبابنا سائرون في الطريق الصحيح، ويعدون أنفسهم علمياً وعملياً لمسئوليات البناء في المستقبل القريب. وهذا القطاع الأكبر من شباب البحرين وشاباتهم هم رصيدنا الوطني الذي نعول عليه، وهم ثروتنا الحقيقية التي لا يمكن أن نفرط فيها، وسنحافظ عليها جميعاً بكل ما نستطيع، وبكل ما أمدنا الله به من قوة. وأيدينا، مع قلوبنا وعقولنا، ممدودة ومفتوحة لهم لنقرأ معهم وفيهم قصة المستقبل المشرق للبحرين.

ومن صميم نداء القلب والعقل هذا إلى شباب البحرين نتجه بالنصح المخلص إلى ذلك النفر من شبابنا وأبنائنا الذين يشعرون بالضيق ويستهويهم نهج التطرف ونقول لهم إن الله قد كرمنا برسالة الإسلام السامية لينقلنا من ضيق الدنيا إلى سعتها وإلى فسحة الأمل، فأهلاً بكم أبناء أعزاء وفلذات أكباد في رحاب الوطن الفسيح لا يمكننا أن نفرط في أي أحد منكم.

وحقيقة الأمر أن كل ما بذرناه من بذور الخير والإصلاح في تربة البحرين خلال هذه الأعوام الفاصلة والحاسمة، سوف يجني حصاده بإذن الله جيل الشباب وثقتنا أنه سيجنيه حصاداً كاملاً، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وليناضل المناضلون، ويدنا في أيديهم إلى الأمام.

حمد بن عيسى آل خليفة

ملك مملكة البحرين

العدد 1303 - الجمعة 31 مارس 2006م الموافق 01 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً