اهتمت الفضائيات العربية والأجنبية منذ فجر أمس (الإثنين) حتى منتصف الليل، بإعادة وتكرار خبر مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، وإشباعه بالخلفيات والتحليلات.
بدأ تسريب الخبر عند السادسة صباحاً، مع الإعلان عن قرب إلقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما كلمة بالمناسبة، والتي تأخرت نحو 40 دقيقة. وحين خرج أمام الكاميرات، زفّ للأميركان خبر مقتل الشخص الذي ظلّ مطلوباً لديهم عشرة أعوام، حيث احتشد الآلاف أمام البيت الأبيض يرقصون.
الخبر الذي شكّك فيه قسمٌ من الجمهور العربي في الساعات الأولى، سرعان ما سلّموا بصحته بعد نشر صورة بن لادن الأخيرة، نقلاً عن التلفزة الباكستانية. ونتف الأخبار التي سرّبها الأميركيون ظلّت تثير المزيد من الشكوك، بما يدلّ على اعتماد سياسة مكثفة من التمويه والتضليل على ما وقع. وفي مقدمة هذه النتف الإخبارية التضليل بشأن وقت تنفيذ العملية، بالإشارة إلى وقوعها قبل أسبوع، والأرجح أنها وقعت فجر أمس الأول. وفي بلد ديمقراطي لا يمكن التستر على هذا الخبر الذي يسيل لعاب وسائل الإعلام، وبالتالي ما كان يمكن التحكم في نشره لأكثر من ساعات حتى لو أرادت الإدارة الأميركية ذلك.
من هذه النتف التي تثير الشكوك في الرواية الأميركية، الإشارة إلى دفنه في البحر، وهي روايةٌ تثير اشمئزاز الرأي العام وتذكّر بسلوك القبائل الوحشية في العصور القديمة. والواضح أن هناك قصداً لصرف الأنظار عن طرح الأسئلة الخطيرة، مثل الإصرار على قتله بدل أسره، لطيِّ صفحة هذه العملية الأمنية بهذه الصورة المتعجلة. فليس من الصعب على القوة العظمى الاحتفاظ بجسده لفترة حتى انتهاء الإجراءات اللازمة في مثل هذه الظروف، فضلاً عمّا هو معتادٌ في التحقيقات الجنائية.
الإشكال الأكبر يُطرح عن دور المخابرات الباكستانية، وخصوصاً مع محاولة الإيحاء بأن العملية نُفِّذت وراء ظهرها، وهو أمرٌ يصعب على العقلاء تصديقه. فالعثور على بن لادن في قلب باكستان، مقيماً في قصر بُني بأكثر من مليون دولار، يثير الكثير الكثير من علامات الاستفهام. فباكستان من أكبر حلفاء أميركا في الحرب على الإرهاب خلال العقد الأخير، والتعاون الأمني والاستخباراتي كان يجرى على أعلى المستويات، وعمليات «بيع المجاهدين» وشحنهم للخارج قصة كتبت عنها الصحافة الغربية كثيراً. فهل يمكن استيعاب وجود مطلوبٍ كبير، في مجمع سكني مأهول، بمنطقة تبعد 100 كيلومتر عن العاصمة (إسلام آباد)، دون أن ترصده المخابرات الأميركية؟!
قبل سنوات، نشرت بعض الصحف الغربية قصصاً وتقارير عن وجود بن لادن في باكستان، ونقلت عن شهود عيان مشاهدتهم له، وجرى التقليل من شأنها. فيما كانت التقارير الاستخباراتية تتعمّد الإيحاء بوجوده في منطقة القبائل على الحدود الباكستانية الأفغانية، بما يعزّز الشك بسياسة التمويه المتعمّد. ردود الفعل على خبر مقتل بن لادن كانت متباينة، تعكس المواقف من «القاعدة» التي توسّعت عملياتها على رقعة جغرافية واسعة. وقد لاقى ترحيباً واسعاً في الغرب وأكثر الدول العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية، حيث قال رئيس الحكومة سلام فيّاض إن ذلك يشكّل «حدثاً عظيماً ونهاية لحياة شخص تورط بأعمال إرهابية فظيعة». بالمقابل أدان ذلك رئيس حكومة غزة إسماعيل هنية (الإخوان)، ووصفه بأنه «مسلم عربي مجاهد». وكان لافتاً موقف إخوان مصر، الذين اعتبروا أن مقتله «يزيل أحد أهم أسباب العنف في العالم». أما الرئيس التركي عبدالله غول (إسلامي أيضاً) فقد رحّب بمقتل «أكثر الإرهابيين خطراً في العالم».
عند احتلال العراق، كانت الخطة الأميركية تقضي باستدراج «القاعدة» إلى هذه الساحة، حيث تجري المنازلة الكبرى، التي دفع العراقيون فيها دماً غزيراً، في مواجهات دامت سنوات. والمتحدّث باسم الحكومة علي الدبّاغ لخّص أمس موقفها بالاستشهاد بالحديث الشريف: «بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين». أمّا قناة «العربية» فبثّت مقابلات مع عراقيين وعراقيات عبّروا عن ترحيبهم بما جرى.
الرواية الأميركية لعملية تصفية زعيم «القاعدة» تثير الكثير من الشكوك والتساؤلات، فإذا كانت المخابرات الأميركية قد رصدته منذ أغسطس/ آب الماضي، فلماذا الانتظار لتسعة أشهر؟ وهل يمكن تصديق أن العملية تمت دون أن تبلغ نظيرتها الباكستانية؟ أم هو إمعانٌ في التمويه على دور الحلفاء؟
إنها فصلٌ آخر من «لعبة الأمم» الجديدة، تديرها الأجهزة، قد تتكشف عن صفقات كبرى في المستقبل المنظور
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3160 - الإثنين 02 مايو 2011م الموافق 29 جمادى الأولى 1432هـ