ما الذي تريده أميركا بالتحديد؟، هدوؤها يجري على غير عادة، توحي وما زالت بأنها عصية على الانقياد، هي مزيد من التعقيد والغموض، فمن بين كل عشرة فيروسات مكتشفة، تسعة منها تم تشخيصها في معمل أبحاث أميركي، ومن بين كل عشر سيارات تجوب شوارع العالم، ثلاث منها خرجت من المصانع الأميركية. لكنه لم يفز بجائزة نوبل للسلام إلا أميركي واحد من العشرة الذين فازوا بها، هي دائما تبحث عن كل ما يزيدها قوة، وترنو إلى أن يحتاجه الآخرون لتكون هي دون سواها محورا للعالم.
كانت قبل القرن السابع عشر الميلادي أرضا غارقة في بحر من الظلمات، ومع الاكتشاف عبر الحجاج البريتايتون أمواج المحيط الهائج ومعهم الكتب المقدسة واللاهوت لبناء إنجلترا جديدة، وحطوا الرحال على الأرض الجديدة، امتدت هذه الحركة إلى أكثر من ثلاثة قرون، نمت معها حضارة بسمات خاصة، وبدا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك الحلم التاريخي بالقوة والقهر.
برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من ثلاث جوانب أولهم الجانب العسكري، إذ إنها امتلكت السلاح النووي الذي استخدمته ضد اليابان، والثاني: الجانب الاقتصادي فقد أصبحت الدائن الأول لأوروبا بعد الحرب، أما الثالث فيتمثل في الجانب السياسي إذ بدا واضحا تأثير الولايات في السياسة العالمية عبر امتلاكها لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن.
ومع امتلاكها لهذه القوى برز الفكر الإمبراطوري يتسلسل إلى زعمائها، ويسطر على توجهاتهم، فبعد الحرب اصطدمت بالمعسكر الاشتراكي في ما عرف بالحرب الباردة، وعلى أثر ذلك بدأت تساعد الحكومات الرأسمالية في القضاء على الحركات الشيوعية، وهذا يتضح جليا من خطاب وزير الخارجية جورج مارشال في جامعة هارفرد في السادس من يونيو/ حزيران 1947، إذ يقول «كل حكومة تكون مستعدة لمعاونتنا، في هذا المسعى الاستنهاضي، ستجد لدى حكام الولايات المتحدة كل أذن صاغية ويد مبسوطة للتلبية»، وقد بلغت الحرب ذروتها في عهد جون كنيدي (1961 - 1963)، إذ حدثت عدة أزمات بين المعسكرين أبرزها أزمة الصواريخ في كوبا، وجدار برلين. وعلى إثرها بدا واضحا تدخل للولايات - في عهد رونالد ريغان (1981 - 1988) - في الشئون الخارجية لكثير من الدول أبرزها: نيكاراغوا، الفلبين، كوبا، أفغانستان، العراق، إيران، ليبيا.
ولم تتنفس الولايات الصعداء إلا بعد سقوط هذا المعسكر فعليا بعد قمة مالطا (1989)، إذ تفردت الولايات المتحدة بالعالم. وبانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي انهارت عدة دول شيوعية في أوروبا الشرقية وفي آسيا، وجاءت أنظمة حاكمة موالية لأميركا في يوغوسلافيا السابقة، وفي صربيا، وفي جورجيا، وهو ما عرف آنذاك بـ «الثورات المخملية»، كان آخرها ما جرى في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، إذ مارست الولايات ضغوطها على النظام القديم لكي يعيد الانتخابات التي اتهمتها بالتزوير لضمان فوز يوشينكو المعروف بولائه لها، وذلك لتفقد روسيا حليفا آخر من جانب، ومن جانب آخر تلقنها درسا بأن المجد السوفيتي لن يعود، إن حاولت بناء دور سياسي جديد لها في المنطقة وهذا ما ظهر للعيان في حرب الخليج الثالثة، وأما المشرق فكان له معها قصة أخرى، فبعد احتضار التيار القومي بوفاة عبدالناصر، بدأت الولايات المتحدة بدعم الأنظمة العربية التي تتفق معها، والدعوة بجدية إلى قيام «الشرق الأوسط الجديد»، ومعه تصبح «إسرائيل» جزءا من خريطة المنطقة، ساحقة من يحاول الوقوف ضدها.
الولايات المتحدة حاولت منذ 1945 قلب 40 نظاما سياسيا في الخارج، وسحق أكثر من 30 حركة وطنية أو شعبية تتصارع ضد أنظمة طاغية، في حين تشجع آخرين على العصيان، هي تبني استراتيجيها القائمة على خلق نظام عالمي ترعاه أميركا توسع فيه من دائرة هيمنتها، تصارع من أجل إبراز صورتها، وفي الوقت ذاته تحارب إية تجربة تظهر في المجتمع الدولي لأنها تخاف أن تكون نموذجا يحتذى به كبديل عنها، لذا هي تفعل المستحيل وتضلله بإعلام غريب مفاده أن ما تقوم به أميركا في الخارج لا يدخل إلا ما هو نافع للبشر، هذا خطابها الذي خرجت به للدنيا.
الولايات المتحدة الأميركية تراهن على نجاح استراتيجيها على ثلاث ركائز هي: القوة العسكرية القوية لها في المنطقة، توافق غالبية الأنظمة العربية معها، مسايرة إرادة الدول الأوروبية مع المنعطف الأميركي في العالم. تصورات هذه الاستراتيجية بدأت واضحة للعيان إذ يشير كثير من المراقبين إلى أنها قائمة على عدم سنح الفرصة دون بروز أي نظام إقليمي يمكنه تحدي الهيمنة الأميركية، والأزمة الإيرانية خير شاهد على ذلك.
تبقى تلك تصورات، لكن الأمر لا ينفي أن الولايات الأميركية تستثمر الوضع لصالحها على أمد بعيد، لكن هل تنجح؟
إنها مغامرة ومعنونة تحت طائلة حساب طويل هي من سيدفع ثمنه، فهي تضع العالم في مخاض خطير، فمن يوقف جنون أميركا؟ بل من يعيد اتجاه بوصلتها نحو الداخل؟.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2498 - الأربعاء 08 يوليو 2009م الموافق 15 رجب 1430هـ