العدد 3159 - الأحد 01 مايو 2011م الموافق 28 جمادى الأولى 1432هـ

صُمُّوا آذانكم بالطين والعجين أمام الشائعات

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سَمع أحدهم ممن يعيشون في حيٍّ مختلط كلاماً كثيراً. في معظم ما سمعه كان تأليباً وتحذيراً وتحريضاً من التعامل مع أشخاص من طائفة أخرى عاش معهم منذ أن كان صغيراً، بالضبط مثلما كان أبوه وجدّه وكامل عشريته يفعلون قبل مئات السنين. أثناء حيرته وكَدَرِه طَرَقَ أحدهم باب منزله. فتَحَ الباب وإذ بجارِه الذي حذَّروه منه يحمل في يده طبقاً من الحلوى يُناوله إياه وهو يقول له بابتسامة آسِرَة: هذا من طَبَاخ اختك أم علي (زوجته)، بس خَلْ بالك من السِّكر لا يرتفع عليك. ترقرقت دمعة له في المحجر، ثم عانقه بقوّة شاكراً له هذه اللفتة.

هذه الحادثة بداية لمدخل مقال اليوم، الذي أفرِده للحديث عن الشائعات وأثرها الخطير والمدمِّر على المجتمعات والدول بالسّواء. فكثيرة هي الشعوب والأمم التي تفكَّكت وذهَبَت ريحها بسبب الشائعات الكاذبة التي ينفثها هذا الفصيل على ذاك دون تورّع أو ذِمَّة. فقد ذبِحَ الآلاف من مسيحيي روما طيلة أربعة أعوام في الستاديوم عندما أشاع القيصر نيرون أنهم هُم مَنْ أشعلوا الحريق العظيم في روما في العام 64م. وفي عشرينيات القرن السادس عشر ماتَ الآلاف من الأناباتيست بسبب الشائعات التي أطلقها أوسياندر ولوثر ضدهم في أوروبا.

ولا أظنّ أن التراث والتاريخ الإسلامِيَّيْن ببعيدَيْن عن هذا الأمر (الشائعات) حين نسمع الباري جلّ شأنه يقول في الآية رقم (6) من سورة الحجرات «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». وفي الآية رقم (12) من نفس السورة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ». وفي الآية رقم (36) من سورة الإسراء «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا». أو في حديث الرسول الكريم (ص) «كفى بالمرء كذباً أن يُحَدِّث بكلّ ما سمع».

وربما عُرِفَ عن الشائعات أن مرتعها الأول هو الأزمات والصراعات والحروب، مثلما يرتبط الذباب بالجِيَف، والحشرات الضارَّة بالماء الآسِن. وقد ارتبطت الشائعات بوسائل الاتصال الحديثة ارتباطاً وثيقاً نتيجة الاستخدام السريع لتلك الوسائل في الترويج للشائعات. وأحسب أن كتاب «تقنيات الدعاية خلال الحرب العالمية (Propaganda Techniques in the Word War) لـ هارولد لاسوال (1902 – 1978) هو من أهم الدراسات الحديثة في هذا المجال حين بيَّن أنها «أدوات في تدوير وتوزيع الرموز المؤثِّرة» تلتها دراسات ألبورت وبوستمان خلال الحرب العالمية الثانية.

وإذا كانت المسألة الدعائية وموضوع الشائعات قد ارتبط في أغلبه الأعظم بالنزاعات والصراعات والحروب فهذا يعني أن ذلك أمر غاية في الخطورة، بل هو سلاح قد يكون أمضى من غيره في تشكيل المواقف وإدارة الصراع بين الخصوم. وما دام هو كذلك، فإن إنزال ذلك السلاح الفتاك على ظهر المجتمع الذي تربطه علاقات فردية وجماعية ضمن سلسلة أمن أهلي حسّاس يعني أمراً غاية في الخطورة. وهو استخدام آثِم في غير محلِّه بالمطلق الهدف منه إلحاق أكبر مساحة ممكنة من التدمير وإراقة الدِّم والحبر بالسواء بين أبناء ذلك المجتمع الصغير أو الكبير.

الغريب أن مصائر المجتمعات باتت أسيرة لنوازع شخصية أو طائفية أو حزبية أو نفسية خلال الأزمات التي تضرب المجتمعات. فمن كانت لديه عداوات شخصية مع أحد (صغاراً وكباراً) لا يتورَّع في أن يقول فيه ما لا يُقال. ومَنْ كانت لديه نزَعات طائفية وضد جماعات أخرى لا يتورَّع في أن يقول فيها الضعيف والمرسل والزخرف من القول بغية تشويهها وإلحاق التهمة بها. ومَنْ كانت لديه تصفية حسابات حزبيّة مع مقابلين له لا يتورَّع إن قال ما قالته كاترينا في الهراطقة لشرعنة الانتقام منهم. ومَنْ كانت لديه أمراض نفسية لا يكترث إن قال في هذا أو ذاك ما ليس فيه وهو البهتان بعينه. فأيّة مسئولية اجتماعية وأخلاقية تلك التي تحتِّم على الجميع الحذر ثم الحذر فيها.

الغرابة الثانية في الموضوع أن أمر الشائعات قد أخذ طريقه هو الآخر إلى الشركات ورساميل المال وصراعاتها من أجل احتكار السوق. كثيرة هي الشركات التي أشاعت بين شعوب الشرق الأوسط المحافظة أن غريمتها تمد «إسرائيل» بالمال والتبرعات. أو أن تلك الشركة تستخدم أنواعاً ضارَّة من المستحضرات الغذائية. بل إن الأمر انسحب على أمور قذرة تتعلق بالقضايا الإثنية والعرقية وبالخصوص في المناطق الحساسة كالبلقان والقوقاز وفي أميركا اللاتينية والوسط الأفريقي القبلي والعشائري الذي لا يحتاج إلاّ إلى إيماءة لكي يُشعل حرباً ضروساً.

قبل مدّة تلقى أحدهم بريداً إلكترونياً حول أحد المستشفيات في جنوب شرق آسيا وكيف أنه استطاع أن يعيد لرجل بصَره بعد أن فقده منذ عشرات السنين. تبيَّن لاحقاً (ومن خلال الخبرة الطبية) بأن الإنسان يتعذر عليه أن يسترجع بصره إذا ما وصل إلى درجة عُمرية مُعينة بالتساوي مع فقدانه لبصره في استمرارية زمنية محددة ضمن معادلة رياضية علمية، الأمر الذي أظهر أن ذلك المستشفى ربما قام بالترويج لخدماته الطبية تلك على طريقة الشائعات رغم أن الإمكانيات الطبية العالمية لم تتوصل بعد إلى مثل ذلك الابتكار.

أمر مهم يتعلق بالشائعات وهو ارتباطها العضوي بالقبول الاجتماعي لها. ففي المجتمعات التي تعيش هَوَسَاً طائفياً مقِيتاً (مسلمين/ مسيحيين – شيعة/ سُنَّة – كاثوليك/ بروتستانت) فإنها تستقبل الشائعات بطريقة سهلة جداً. وربما تقوم بحرف الحقائق عن مسارها الصحيح خدمة لأغراضها الطائفية. وفي المجتمعات التي تنام وتصحو على وقع الصراعات العرقية فإن الشائعات تكون سهلة الانتشار، وهو ما نراه بجلاء في دول البلقان.

في كلّ الأحوال فإننا اليوم ونحن نعيش أزمة اجتماعية نتمنى أن يُرتق فَتقها، فإن الواجب العيني والأخلاقي على الجميع بلا استثناء أن يُجهِزوا على كلّ قول كاذب يُراد منه أن يُقسِّم المجتمع إلى سماطين وناسَيْن. فالشائعة تموت عندما تصَمُّ الآذان أمامها. وأصحابها يُعَرَّوْن عندما يُهمَّشون ولا يُسمَع لهم، لأنهم وباختصار أصحاب دنيا ومصالح خاصة وأهداف مشبوهة، وأفراد أنانيون متوترون حاقدون ومرضى نفوس. فالمجموع أهم من هؤلاء الآحاد، وسلامة الناس وحماية أواصرهم الاجتماعية أولى من كلّ شيء

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3159 - الأحد 01 مايو 2011م الموافق 28 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً