لو قُدر للأنظمة العربية أن تتخلص من شيء، لتخلصت من يوم الجمعة، إذ بات يشكل مصدر قلق يهدد وجودها بعد أن كان - ولقرون طويلة - منبراً تطل منه على الجماهير للتأكيد على شرعيتها. ومما لا شك فيه أن خطب الجمعة قد مارست دوراً محورياً في هذا الشأن، من خلال توسيع مفهوم السمع والطاعة للدرجة التي تصبح معها المعارضة السياسية خروجاً على الحاكم ودعوةً للفتنة، ومن خلال الدعاء للحاكم بالنصر على أعدائه الذين هم في هذه الحالة مواطنون لا يعرفون مصلحة بلادهم، ويخالفون دينهم الذي لا يقبل التطاول على رأس الدولة ما لم يأتِ كفراً بُواحاً.

تاريخياً، هذا الدور الذي اضطلع به يوم الجمعة كان جزءاً من خطة تبنّاها الملوك والسلاطين والأمراء لتدجين الجماهير وتزييف وعيها، مستفيدين من منزلة يوم الجمعة لدى عموم المسلمين، والذي جعلته عيداً يحتفلون به كل أسبوع، ومناسبة عظيمة لطلب العفو عن ذنوبهم. وقد اعتبرت السلطة أن قبول التوبة مسألة ترتبط بمدى رضاها عن الناس، وعمل كثير من رجال الدين على ترسيخ هذه المعادلة من خلال تفسيرات تعسفية لبعض الآيات القرآنية، من خلال إبراز أحاديث مشكوك في صحتها تدعو إلى الاستسلام للحاكم كون ذلك استسلاماً لله في حقيقة الأمر، وكان من ضمن الأحاديث التي تثير الريبة تلك التي تدعو المصلين للانصياع للخطاب الذي تتبناه السلطة في خطب الجمعة، وعدم فعل أي شيء قد يُفهم منه أنه يخالف هذا الاتجاه، ويؤدي لحرمانهم من ثواب الجمعة، فيما يشبه التآمر على حق الناس في الاعتراض، في تناقض واضح مع تاريخ المسلمين الأوائل الذين كانوا يبدون ملاحظاتهم وآراءهم أثناء خطب الجمعة دون أن يُقابلوا باستنكار من أحد.

وقد ساهم هذا المنطق في تحقير كثير من المبادئ التي تؤسس لدولة العدالة والمساءلة، ولاحظ الصادق النيهُوم في كتابه المهم «الإسلام في الأسر» أن من ضمن العوامل التي أدت إلى التراجع الحضاري الذي شهدته الأمة العربية والإسلامية في القرون الماضية هو السطو على وظيفة الجامع، وتأميم يوم الجمعة لمصلحة السلطة، وهو مشهد مقلوب يتكلم فيه أهل السماء، ويسكت أهل الأرض. لكن المشهد له وجه آخر كما يقول النيهُوم، عندما يستعيد يوم الجمعة وضعه الحقيقي، فهو يوم مخصص للحوار السياسي، وليس للصلاة فقط.

بيد أن الاحتجاجات والثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، والمطالبة بإسقاط الأنظمة الحاكمة نتيجة فشلها في تلبية طموحات مواطنيها في التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أعادت الاعتبار ليوم الجمعة بوصفه سلاحاً بيد الجماهير الغاضبة والتواقة للتغيير، بعد أن كان يوماً من أيام السلطة تسوّق من خلاله مقولاتها وشعاراتها. ويمكن القول أن القوى التغييرية في العالم العربي استطاعت استثمار الجمعة في حشد الجماهير وتعبئتها ضد السلطات الحاكمة، وفي الإمساك بالشارع، وهو الأمر الذي أعطى تحركاتها ثقة لم تكن موجودة من قبل. وكان لقرار تسمية الجمع على غرار «جمعة الغضب»، و «جمعة الإصرار»، و «جمعة الثبات»، و «جمعة الصمود»، و «جمعة الكرامة»، و «جمعة الرحيل»، و «جمعة الخلاص»، وغير ذلك من التسميات تأثيرٌ واضحٌ على استمرار التعبئة الشعبية بنفس الكفاءة، وهو الأمر الذي اضطر بعض الأنظمة إلى محاولة استخدام هذه الإستراتيجية في محاولة منها لحشد أكبر عدد من مؤيديها من جهة، ولكسر احتكار الجمعة من قبل المعارضين لسياستها والمطالبين بإسقاطها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من جنوح هذه الأنظمة بما تملك من كبرياء وقوة غاشمة إلى اختيار أسماء لا تنطوي على تحدٍّ أو تعنت، مثل «جمعة الوفاء»، أو «جمعة التسامح»، أو «جمعة الاستقرار»، أو «جمعة الوفاق»، وما إلى ذلك، فإنها لم تتمكن من إحداث توازن على صعيد الشارع، إذ بدت عاجزة عن ترميم علاقتها بالشعب الذي لم يعد يثق بكل ما يصدر عنها. والحال، أن استعادة الجمعة من أيدي السلطة وإعطاءها هذه المعاني الثورية قد أحدث انقلاباً هائلاً في القيم والمفاهيم، فهذا اليوم الذي ظل يُنظر إليه باعتباره يوماً للعبادة، أو حتى يوماً للترفيه والتسوّق والراحة، بات يوماً للثورة وتنظيم المظاهرات وحشد الجماهير، ما يعني أن الاحتجاجات الشعبية ستزداد بريقاً وتأثيراً، وهذا سببٌ كافٍ لكي لا تشعر الأنظمة السلطوية بالارتياح