وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني من شخص لا أعرفه تدور حول كيفية التعامل مع أهل البِدَع، وأن مِن عقيدة السلف أن «يتم إذلالهم وإخزاؤهم، وإبعادهم، وإقصاؤهم، والتباعد عنهم، وعن مصاحبتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم». فطلبتُ مِن صاحب الرسالة أن يعطيني مثالاً على أهل البِدَع فقال :»عبدة القبور ومن يتبرّك بأصحابها». تساءلتُ حينها إن كان يوجد بيننا، ونحن في الألفية الثالثة، من لايزال يتبرّك بالموتى؟ وإن وُجِدَ هؤلاء فلماذا لا نسمع عنهم أو لا نراهم؟ ربما لأنهم غير موجودين أو لأنهم أقليّة لا تُذكر، ولذلك فإن ممارستهم تلك لا تؤثر في النسق الفكري الاجتماعي السائد في مجتمعات المنطقة.
يكثر الحديث عن أهل البدع في المحاضرات الدينية وفي الكتب وفي شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، ويُركز كثير من الدعاة والمشايخ - حفظهم الله - على تفصيل أنواع البدع، كالاحتفال بالمناسبات غير الدينية، والمولد النبوي وغيرها، والتحذير منها، والتهويل من مدى خطورتها على الناس. وعندما ننظر إلى تطور الحياة من حولنا وتداخل الثقافات الإنسانية من خلال الإعلام والإنترنت والسفر ووسائل الاتصال، نجد بأن الإنسانية أرحب بكثير من أن نُباغض بعضنا البعض لأن أحدنا يمارس طقوساً يصنّفها الآخر على أنها بِدع. ولستُ في صدد الحديث عن مدى شرعية بعض «البدع» فذلك عمل المختصين في العلوم الشرعية، إلا أنني أستنكر على من يدعو على ممارسي «البدع» بالهلاك، ومن يدعو إلى مقاطعتهم دون أن يستشعر عِظَم الشِقاق الذي تقود إليه تلك الدعوات. فقد يكون من يمارس تلك «البدع» هو أبوك أو أخوك أو زوجتك، فكيف يتقرّب أحدنا إلى الله عز وجل بإذلال أبيه وإقصائه لأنه احتفى بالمولد النبوي!
إن الدعوة إلى نبذ الآخر ومقاطعته لأنه يختلف معنا في الممارسة أو في الرأي هي إحدى أنواع التعصب المذموم الذي يمارس باسم الدين، وعلينا ألا نستغرب إذا سادت موجة من الكراهية العالمية تجاه المسلمين عندما يرانا العالم ونحن نشقّ الصفوف ونكيل الاتهامات إلى بعضنا البعض كلما اختلفنا، فإذا كان هذا حالنا مع أبناء جلدتنا الذين نختلف معهم أو الذين ينتمون إلى مذهب آخر، فكيف بنا مع من يخالفنا العِرْق والدين؟
لقد استخدم المتطرفون من المسلمين وغير المسلمين آيات قرآنية ومفاهيم دينية ووظفوها بصورة مغايرة لفحواها الحقيقي، كآية «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» فنزعوا الآية من سياقها التي وردت فيه وهو قتال المشركين الذي يقاتلون المسلمين حيث أدركوهم في الحل والحرم، وليس قتال المشركين بشكل عام، ليصل الطرفان المتطرفان، المسلم وغير المسلم، إلى نفس النتيجة المقيتة: وهي أن الإسلام يدعو إلى العنف!
كيف سنبني مجتمعاً حضارياً ونحن لانزال نُصنّف الناس بناء على إيمانهم وممارساتهم وأشكالهم؟ وما شأن تدين الناس بقبولنا لهم كأفراد فاعلين في المجتمع إذا كانوا يعملون بجد ويحترمون قيمه ويحققون مطالب التنمية، فإيمان الإنسان له وعمله للمجتمع.
إن الحياة كالنهر الجاري، والمجتمعات كالقوارب التي تجري فيه، أما الناس فإنهم يقفون على ضفّتي النهر. فمنهم من يُفضل المشي على أن يشترك في القارب مع أناس مِن الضفة الأخرى، وهذا هو السلبي. ومنهم من يركب القارب مع الآخرين ويتنازع مع الركّاب من الضفة الأخرى فإما أن يُسقطهم وإما أن يسقطوه، وهذا هو المتعصب. أما المتسامح فإنه يركب مع أيٍّ كان ويجدف معه حتى يستمر القارب في التدفق بسلاسة مع مجرى النهر، لأنه يعلم بأنه لن يستطيع أن يتحكم بالقارب لوحده حين تهبّ العواصف، أو حينما يبلغ القارب منعطفات خطيرة في مسيرته الطويلة.
لا أحد يعلم الحقيقة المطلقة، وكل ما نعلمه هو أننا نتمنى أن نجدها كما نريد، والحقيقة لا تتغير، ولكن فهمنا لها يتغير تبعاً لاقترابنا منها أو لابتعادنا عنها، وتبعاً للزاوية التي ننظر من خلالها. فليس كل ما نراه صحيحاً يكون صحيحاً، وإذا أردنا أن نصل إلى التسامح الحقيقي فإن علينا ألا نربط عقولنا باقتباسات عمرها مئات السنين وكانت لها ظروف خاصة، بل علينا أن نستفيد مما قاله الأولون ثم نُمعنَ عقولنا ونوظف مُتطلبات العصر الذي نعيش فيه حينما نفكّر ونستنتج. إن الزاوية التي ننظر من خلالها إلى العالم تحدد مواقفنا الفكرية منه وتقيس مدى تسامحنا تجاه الآخرين، وإذا نظرنا إلى الناس اليوم بنظرة الماضي الذي تختلف ظروفنا مع ظروفه وأحكامنا مع أحكامه، فإننا لاشك سنجد في قلوبنا حُرقة منهم.
إن التعصب الذي يمارسه البعض هو شبيه بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى، ولا يجوز أن نهْجُرَ من يختلف معنا ونحن نقرأ «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». فلا يمكن لمن يُقصي الناس ويباغضهم أن يحمل في قلبه حباً للبشرية، ولا يمكن أن يجتمع التعصب والتسامح في نفس واحدة. التسامح هو أحد مؤشرات نضوج المجتمع ومقياس لمدى مرونته مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، داخلياً وخارجياً، وكلما تعمق مفهوم التسامح في مجتمع ما، أصبح أفراده أكثر قدرة على التعلم والنمو. فالتعصب الفكري يحرم الإنسان من الوصول إلى مصادر معرفية قد تغير حياته إلى الأفضل، لأنه حينما يتعصب فإنه يرفض الاطلاع إلا على كتابات الذين ينتمون إلى نفس فكره ومنهجه. ولكي نصل إلى الحقيقة فعلينا أن نبحث عنها بأنفسنا، فالحقيقة مثل المعلومة، تضعف دقتها كلما تناقلتها الأقلام والألسن، وحتى نفهم الآخر، فإن علينا أن نقرأه بتجرّد تام لكي لا نُقحم أفكارنا المسبقة في حكمنا عليه.
ليس مهماً أن تحب الآخر أو تتفق معه لتكون متسامحاً تجاهه، ويكفي أن تؤمن بحقه في التعبير عن رأيه بحرية مثلما تريد أنت أن تعبر بحرية. إن التقرب إلى الله تعالى لا يمكن أن يكون بالابتعاد عن الناس وبمجانبتهم، فإنك لن تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3158 - السبت 30 أبريل 2011م الموافق 27 جمادى الأولى 1432هـ