اختلفت الروايات في تاريخ ولادتها، واختلفت في تاريخ زواجها، وفي يوم رحيلها، لكنها أجمعت على أنها سيدة نساء العالمين.
تربّت في بيت النبوة، وارتشفت من معين الرسالة، وعاشت سنوات الهجرة صبية، وفي شبابها عايشت حركة التغيير الكبرى التي قادها محمد (ص)، وكانت شاهدةً على التحولات الكبرى التي قادها محمدٌ (ص)، بما فيها تلك النقلة الكبيرة في حياة المرأة، حيث كان يوصي أتباعه بالرفق بها، ويقول لهم: «خيركم خيركم لأهله»، بينما اعتاد قومه لقرونٍ على وأد الأنثى، ودفنها حيةً تتلوّى تحت التراب.
عاشت ثماني سنوات في مكّة قبل الهجرة، وعاشت في المدينة عشر سنوات، كفاحاً ونضالاً وجهاداً وانتصارات. وفي وسط هذه البيئة، كان أقرب الناس إليها روحاً وأشواقاً وتطلعات، شابٌ من أقاربها، شاركها هموم الرسالة وتحمل تبعاتها منذ كان صبياً. لذلك حين فاتحها أبوها بخطبته إياها سكتت بينما كانت تعرض بوجهها حين يذكر غيره، فخرج (ص) ليقول: «سكوتها إقرارها».
لم يكن من أصحاب رؤوس الأموال، لكنه كان شاباً مكافحاً، يعمل بكدّ يده، ويتجنّد في الصف الأول من المجاهدين، وظلّ مؤمناً بخدمة المجموع حتى أواخر أيامه، يعين الفقراء ويوزّع عليهم الزاد ويحفر للمستقين الآبار ويزرع النخيل والأشجار. وحين سأله (ص): «هل عندك شيء»؟، أجاب بأنه لا يملك غير سيفه ودرعه وناضحه (جمله)، فردّ عليه: «أمَّا سيفك فتجاهد به أعداء الله، وأما ناضحك فتنضح به على نخلك وأهلك، ولكنِّي رضيتُ منك بالدرع». وهكذا باع درعه وقدّمه مهراً لسيّدة النساء.
لم يكن مردود الدرع كبيراً، إذ تختلف الروايات في قيمته بين 400 و480 درهماً، جاء بها عليٌّ ووضعها أمام رسول الله، فأمر بصرف ثلثه في الطِيْب، والباقي في تجهيز المنزل الجديد. وكان الجهاز بسيطاً زهيداً، ولائقاً بظروف تلك الثورة الكبرى التي ستغيّر وجه جزيرة العرب. ومع ذلك اهتم الرواة القدامى، وكذلك الكتاب المحدثون، بتتبع تفاصيل ذلك الجهاز. سرير من جريد النخل، وسادةٌ من أدَمٍ محشوةٌ بالليف، ومنخلٌ ومنشفة، وجرّتان ورحى للطحن، وقميصٌ وثوبٌ وخمارٌ (غطاء للرأس)، وعباءة بيضاء وجلد كبش. جهاز عرسٍ في غاية البساطة والتواضع والزهد.
بعد أشهر، وحين استبطأ نساءُ النبي العرس، كلّمن الرسول في ذلك، فأشار عليهن بترتيب شئون الزواج، وبارك للزوجين ودعا لهما بالخير وجمع الشمل. وهكذا قام عليٌّ برشّ أرض الدار برمل ناعم، وأكمل تجهيز ذلك البيت الدافئ البسيط، الذي سيشهد زواجاً مثالياً مباركاً، يثمر عن أعز وأكرم وأطهر الأبناء.
تذكر كتب السيرة أن رسول الله تزوّج عدة مرات، ولكنه لم ينجب غير البنات، وحين أنجب طفليه (إبراهيم والقاسم) فقدهما سريعاً، فحزن حزناً شديداً. وكان مشركو قريش يعيّرونه بذلك، فنزل القرآن يذمهم ويسليه: «إنا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربّك وانحر. إن شانئك هو الأبتر». وشاء الله أن يجعل ذريته الطاهرة من نسل فاطمة وعلي، حتى قال: «إنّ الله جعل ذرية كلّ نبيٍّ من صلبه خاصة، وجعل ذريتي من صلبي ومن صلب عليّ». وبارك الله في نسلهما عبر القرون، يقوم منهم في كلّ جيلٍ من يحيي أمر هذا الدين ويجدّد رسالة النبي الأمين.
اختلف الرواة في مدّة بقائها بعد أبيها، بين أربعين يوماً، وخمسة وسبعين، أو تسعين يوماً، وبين أربعة وثمانية أشهر، ولكنها لم تبق بعده (ص) أكثر من ذلك. وخلال هذه الفترة اشتاقت يوماً لسماع صوت مؤذن الرسول، فاستجاب بلال (رض) لرغبتها، إلا أنها سرعان ما أجهشت بالبكاء حتى أغشي عليها، فقال له الناس: أمسك يا بلال، فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا؛ ظناً بأنّها ماتت، فقطع الأذان.
في أواخر أيامها، ومع إحساسها بدنو الأجل، دعت عليّاً إليها لتوصيه، وبادرت بسؤاله: «يا ابن عم، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني»، فضمها إلى صدره وقال: «معاذ الله، أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم». كانت تمهّد لتوصيه بما فكّرت به خلال أيامٍ وليالٍ طويلة.
كانت تقلّب عينيها بين زوجها وأطفالها، وتفكّر بمصيرهم، وأخذت توصيه بما يشغل بالها: أن يتزوّج ابنة أختها أمامة لأنها ستكون مثلها لأولادها. وإنْ تزوّج امرأةً فليجعل لها يوماً ولأولادها يوماً، وألا يصيح بوجوههم فيشعروا بقسوة الغربة ومرارة اليتم. وأوصت لأزواج النبيّ ونساء بني هاشم لكلّ واحدة منهن اثنتي عشرة أوقية. كلها وصايا تنم عن نفس شفيفة رقيقة رقة السحاب.
بعد أن أغضمت عينيها، قام بشأنها علي (ع) وصلّى عليها، ودفنها ليلاً، بحضور عددٍ محدودٍ من الأهل والمقرّبين، في أحد أيام جمادى الآخرة من عام 11 للهجرة، وقام بتعمية قبرها ليبقى لغزاً من ألغاز التاريخ الكبرى.
مع إسدال الستار على مشهد الختام، وقف الزوج الفاقد على قبر المصطفى مناجياًً: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي... قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختُلِست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله. أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد».
سلام الله على الزهراء وأبيها، وبعلها وبنيها، والسر المستودع فيها، ما بقي الليل والنهار
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3156 - الخميس 28 أبريل 2011م الموافق 25 جمادى الأولى 1432هـ