أطلق خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة جملة من التداعيات، قد يكون أكثرها بروزا أنها فرضت على الحكومة الإسرائيلية الإعلان عن موقفها، وهو ما فعله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خطابه بجامعة بار إيلان يوم 24 يونيو/ حزيران. وقد أطلق خطاب نتنياهو بدوره ردين عامين. وعلى رغم أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رحّبا بالخطاب، فقد رفضه العرب، حيث أصرت بعض أجهزة الإعلام العربية أنه أطلق نبأ موت العملية التفاوضية.
المكسب الإسرائيلي الوحيد الأكثر أهمية من الخطاب كان الإسفين الذي دقّه بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والرد العربي. وقد جرى رفع مستوى الخطاب بشكل تستطيع معه الولايات المتحدة وأوروبا البدء من نقطة الاعتراف بحل الدولتين، وكان مفيدا تكتيكيا من الناحية الداخلية، وشكّل نقطة بداية وليس نهاية.
وبعكس الرأي العام في العالم العربي، أعتقد أنه يتوجب علينا أخذ نتنياهو عند كلمته، وبدلا من معاملة خطابه على أنه موقف نهائي، أن ننظر إليه كمنطلق لتحقيق هدف إيجاد دولة فلسطينية مستقلة خالية من المستوطنات عاصمتها القدس الشرقية. يتوجب علينا أن نتجاهل في الفترة الحالية أي شيء يتعارض مع هذا الهدف مثل المستوطنات أو المطالبة بالاعتراف بـ «إسرائيل» رسميا كدولة يهودية، على رغم أنه بالنسبة إلى القضية الثانية، من الحيوي الإصرار أن تضمن «إسرائيل» لسكانها العرب هويتهم الكاملة حتى يتسنى إبعاد شبح «النقل» الجماعي.
منذ وصول إدارة أوباما إلى السلطة، تحول موقف واشنطن تجاه النزاع العربي الإسرائيلي بشكل أقرب إلى موقف أوروبا. فقد درجت واشنطن على زيادة الضغط على نتنياهو لتجميد النشاط الاستيطاني والموافقة على حل الدولتين. وعندما كررت الدول الأوروبية وروسيا والصين والهند وغيرها من القوى النداء بدأت حكومة نتنياهو تخاف من حركة من نوع العزل الدولي الذي ظنت أنه قد أصبح ماضيا منسيا.
اختار نتنياهو، بعد قياسه الحرارة الدولية بدقة، عدم مقاومة التيار بشكل واضح، فتوصل إلى معادلة بدت وكأنها تسعى إلى التسوية، ولكنها في الواقع احتسبت لتفكيك أي إجماع عالمي عربي غربي، والحد من الخسائر الإسرائيلية وشراء الوقت.
صُمم خطاب نتنياهو لإرسال رسائل مختلطة. فمن ناحية، هز رأسه إيجابا باتجاه الرأي العالمي، معترفا بالحاجة لإيجاد دولة فلسطينية، ومن ناحية أخرى، رفض الإعلان عن وقف كامل للنشاط الاستيطاني، مصرّا على «الحق» في بناء المستوطنات لمواجهة احتياجات «النمو الطبيعي» الذي طالما كان الرمز الإسرائيلي لتوسيع المستوطنات.
ثم أضاف نتنياهو بعد ذلك قائمة طويلة من المطالب والشروط تتعلق بشكل وسلطات الدولة الفلسطينية المستقبلية، وعلى رأسها الإصرار على قدس موحّدة وضرورة أن يعترف الفلسطينيون مقدما بالهوية اليهودية لدولة “إسرائيل”.
ويكون من المفيد هنا استذكار مواقف مناحيم بيغن فيما يتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية والمطارات والأراضي في سيناء، ثم تذكر أنه تمت إعادة سيناء بعد ذلك بكاملها إلى مصر. ومن المفيد كذلك أن نتذكر أن العديد من دول العالم الثالث التي حصلت على استقلالها بدأت تحت ظروف أقل بكثير من السيادة الكاملة، التي تم الحصول عليها في نهاية المطاف مع تغير الظروف.
أصيبت تلك الدول التي رحّبت بالخطاب بصدمة بسبب ردة الفعل العربية المتعجلة والتي بدا أنها تفترض أن نتنياهو قد قال إن العملية تتوقف هنا، وبعدم وجود احتمالات لإنشاء دولة فلسطينية وانعدام وجود أفق لتجميد المستوطنات.
استبعدت الحكومات العربية والحركات السياسية والإعلام اعتراف رئيس الوزراء بالحاجة إلى دولة فلسطينية على أنها خدعة تهدف إلى الحصول على إعجاب الدول الغربية، بينما الدفع الحقيقي للاستراتيجية الإسرائيلية هو الدفع قدما بتوسيع المستوطنات، وبفرض قضية «يهودية» الدول كسبيل لإيقاف العودة إلى المفاوضات.
وهناك بعض الصحة في هذا الموقف، ففي نهاية المطاف، يعود الأمر للدولة نفسها في كيف تعرّف نفسها. توجد اليوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية وغيرها من الدول «الإسلامية». ولكن لم يحصل في تاريخ العلاقات الدولية أن طالبت دولة الآخرين بالاعتراف بتعريفها لنفسها أبعد من الاعتراف بحقها في الوجود.
ما كان نتنياهو يهدف إليه بالضبط هو أن تأخذ الدول الغربية والدول العربية مواقف ووجهات نظر متضاربة حول ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي في خطاب نتنياهو. ما يبدو واضحا لي هو أن العرب يجب أن يركزوا بوضوح أكثر على تكتيكاتهم واستراتيجياتهم، بما في ذلك وضع الولايات المتحدة وأوروبا فيها.
لا يعني هذا بأي حال من الأحوال الاقتراح بأننا نوافق على شروط نتنياهو. الموضوع، بدلا من ذلك هو وجوب أن ننخرط معه كأنما خطابه لا يشكل أكثر من نقطة تفاوضية وضعها متشدد ليكودي يتوجب علينا أن نضغط عليه خطوة بخطوة ليكون منطقيا، كما فعل المصريون مع بيغن.
هذا التعامل الاستراتيجي مع خطاب نتنياهو بعيد كل البعد عن الرفض الشامل، الذي لا يؤدي إلا إلى تقديم أوروبا وواشنطن لـ «إسرائيل» على طبق من فضة.
نستطيع من خلال استراتيجية مشاركة عقلانية كهذه بناء قوة الاندفاع لدعم القضية الفلسطينية. وعلينا قبل كل شيء أن نبقى واعين ضد التصرف الذي يعتمد عليه نتنياهو.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2498 - الأربعاء 08 يوليو 2009م الموافق 15 رجب 1430هـ