إن ما يهمني في الأمر هو الخلاصات التي خرج بها منظرو هذا الاتجاه من مقدماتهم: في تصوري لا يقلد الكاتب ما بعد الحداثي النموذجي أحدا، ولا يتنكر لا لآبائه من القرن العشرين ولا لأجداده من القرن التاسع عشر. لقد هضم الحداثة، ولكنه لا يضعها حملا ثقيلا على كتفيه. قد لا يحلم هذا الكاتب بالوصول إلى هواة جيمس ميشينر وإرفينغ والاس، دون أن نتحدث عن الأميين الذين بلَّدتهم وسائل الاتصال الجماهيرية، ولكنه يحلم بالوصول أو تسلية (بعض الأحيان على الأقل) جمهور أعرض من حلقة أولئك الذين كان يسميهم توماس مان المسيحيين الأوائل، المخلصين للفن. على الرواية المنتمية إلى ما بعد الحداثة أن تتجاوز الصراع القائم بين الواقعية واللاواقعية، بين شكلانية ومضمونية، الأدب الخالص والأدب الملتزم، سردية النخبة وسردية الجماهير. وأفضل في هذا المجال قياسها بالجاز الجيد أو بالموسيقى الكلاسيكية، فعند سماعنا أو دراستنا لتوزيع ما، نكتشف كما هائلا من الأشياء لم تثر انتباهنا في البداية، إلا أنها تعرف كيف تمتعك منذ البداية إلى درجة تدفعك لأن تسمعها من جديد، وهذا يصدق على المتخصصين كما يصدق على المبتدئين (لقد تناول جون بارث هذا الموضوع من جديد سنة 1980 تحت عنوان «أدب الامتلاء»La littérature de la plénitude ). وبالتأكيد، فإن هذا الخطاب يمكن إعادة صياغته بطريقة مفارقة، وهو ما قام به ليسلي فيدلر في دراسة سنة 1981، وفي مناظرة حديثة حول Salmagundi مع مؤلفين أميركيين آخرين. وبطبيعة الحال فإن فيدلر كان مستفزا. فقد مجد Le dernier des Mohicans (32)، كما مجد سردية المغامرات والقوطي، كل تلك الكتلة من الكتابة التي احتقرها النقاد، والتي عرفت كيف تحيط نفسها بالأساطير وعششت في متخيل أكثر من جيل. لقد تساءل فيدلر: هل ستُقرأ رواية مثل رواية La case de l»oncle Tom (33) بنفس الحرارة في المطبخ وفي الصالون وفي غرفة الأطفال إذا أعيد طبعها من جديد؟ لقد وضع شكسبير وكذا رواية «ذهب مع الريح» جنبا إلى جنب مع أولئك الذين كانوا يعرفون كيف يسلون. لقد كان ناقدا ماهرا، لاشك في ذلك، ونعرف جميعا أنه ناقد رفيع الذوق يصعب تصديقه. إنه كان يريد فقط تدمير ذلك الحاجز القائم بين الفن واللطف. إنه كان يدرك بشكل حدسي أن مسألة التأثير في جمهور عريض واستيطان أحلامه، قد تكون هي ما يشكل في الوقت الراهن ما نطلق عليه الطليعة، وهذا ما يترك لنا الحرية في أن نقول إن استيطان أحلام القارئ ليس بالضرورة دليلا على دغدغتها. فقد يعني أيضا ملاحقتها وإرهاقها.
12. الرواية التاريخية
لقد رفضت منذ سنتين أن أجيب عن أسئلة تافهة من نوع: هل يعد عملك عملا مفتوحا؟ وما يدريني، تلك مشكلتكم أنتم وليست مشكلتي. أو من نوع: ما هي أقرب شخصية إليك؟ يا إلهي، من هي الشخصية التي يتطابق معها المؤلف؟ مع الظروف (adverbes) بطبيعة الحال. إلا أن أكثر تلك الأسئلة تفاهة هي تلك التي تقول: هل صحيح أن سرد أحداث الماضي هو هروب من الحاضر؟ وأرد: هذا محتمل، فإذا كان مانزوني يحكي عن أحداث القرن السابع عشر فلأن القرن التاسع عشر لم يكن يثير اهتمامه. لقد كان غويستي في روايته SantAmbrigio يروي للنمساويين أشياء تخص مرحلته، في حين أن رواية بيرشيت Guiramento de pondil كانت تتحدث عن الخرافات الماضية. إن love story وليدة عصرها إلا أن La chartreuse de parme (34) تحكي عن أحداث وقعت منذ 25 سنة.
فما الفائدة من القول إن كل مشاكل أوروبا المعاصرة تشكلت، كما نحياها الآن، في القرون الوسطى، بدءا من ديموقراطية الجماعات إلى اقتصاد البنوك، ومن الملكيات الوطنية إلى الحواضر، ومن التكنولوجيا الحديثة إلى ثورة الفلاحين. إن القرون الوسطى هي طفولتنا التي تجب العودة إليها باستمرار لكي نحتفظ بذاكرتنا. لكن بالإمكان أيضا أن نتحدث عن القرون الوسطى على طريقة إكسكاليبور (Excalibur) (35).
وبناء عليه، يجب البحث عن المشكل في أشياء أخرى، وهو مشكل لا يمكن تجنبه. فماذا يعني أن نكتب رواية تاريخية؟ أعتقد أن هناك ثلاث طرق لرواية أحداث الماضي. الطريقة الأولى هي رومانس (Romance) (36) ينطلق من الدورة البروتونية مرورا بقصص تولكيان (Tolkien)، حيث نعثر أيضا على «الرواية القوطية» التي لا علاقة لها بالرواية ولكنها وثيقة الصلة بالرومانس. في هذه الحالة، فإن الماضي يمثل أمامنا على شكل سينوغرافيا، أو ذريعة أو بناء لحكاية تطلق العنان لكل أنواع الخيال. ومن جهته فإن الخيال العلمي يعد في غالب الأحيان رومانس. والرومانس هو حكاية لمكان بعيد.
بعد ذلك تأتي رواية الفروسية كما هو الشأن مع دوماس. إن رواية الفروسية تختار لنفسها ماضيا «واقعيا» يمكن التعرف عليه: ومن أجل الوصول إلى ذلك، فإنها تملؤه بشخصيات لها موقعها في الموسوعة (ريشوليو، مازاران)، وستقوم هذه الشخصيات بأعمال لا وجود لها في الموسوعة (اللقاء مع ميليدي، عقد لقاءات مع المدعو بوناسيو) ولكنها لا تتناقض معها
العدد 3155 - الأربعاء 27 أبريل 2011م الموافق 24 جمادى الأولى 1432هـ