بعد سنوات من نحت أحد أعضاء لجنة كريل البارزين، إدوارد بيرنيز، لمفهوم «صناعة القبول» أو «صناعة الموافقة»، لم يترك الألسني الأميركي نعوم تشومسكي، الأمر يمضي من دون مشاكسة وإعمال لمنهجه في التحليل والقراءة والاستجلاء. يحضر المفهوم ذاته اليوم في لحظة تاريخية تبدَّتْ فيها الخيارات وكأنها ضرب من وهم؛ بل هي كذلك. خيارات إزاء «صناعة» كتلك. صناعة تقوم على قلب المفاهيم، وتغييب القيم، أو محاولة السيطرة عليها بأكثر من جهاز تحكم عن قرب أو بعد. لا فرق.
في الإعلام، وآلته الجهنمية التي تفح موازنات لا قبل لرياضي بها، يبرز الدور الخطير والمحوري والفاصل في تلك الصناعة. ثمة مفاهيم يعاد صوغها. ثمة خرائط يعاد النظر فيها. ثمة تاريخ وإرث بصدد إعادة التركيب. التركيب وفق شروط ورؤية تلك الصناعة.
تشومسكي في كتابه «أهميّة الدعاية وخطورتها في تغيير مزاج الرأي العام»، ينحو منحى الالتزام بمحاكمة ومحاسبة واستنطاق الحدث واللحظة التاريخية التي تصل إلى يده... وعيه منهاجه.
يستعرض تشومسكي تاريخ الدعاية، من خلال استخدامها في عهد إدارة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العام 1916؛ إذ بدأ عهده السياسي تحت شعار «سلام من دون انتصار»؛ إذ كان الشعب الأميركي نازعا إلى الهدوء، ولا يرى سببا في التورط في حرب أوروبية، ولأن إدارة ويلسون التزمت فعلا بالحرب، وكان لا بد من عمل شيء تجاهها فقد أُسست لجنة دعاية حكومية أُطلق عليها اسم لجنة (كريل Creel) التي نجحت في غضون ستة شهور أن تغير مزاج الشعب الأميركي الذي ينزع إلى الهدوء واللاعنف إلى شعب هستيري مهووس بالحرب ويروِّج لها، ويريد تدمير كل شيءٍ ألماني وتمزيقه، وقد استخدمت لهذا الغرض من قبل اللجنة الدعائية وسائل متعددة واسعة النطاق؛ منها على سبيل المثال اختلاق قدر كبير من الأعمال الوحشية التي ارتكبها الهون (الألمان)، ومن صور الأطفال البلجيكيين الذين مُزِّقت أذرعهم، ومن كل أنواع الأمور المروّعة التي مازال المرء يقرؤها في كتب التاريخ، والتي حققت نتائج كبيرة بسبب دعم طبقة المثقفين لها، وتعلم منها هتلر الشيء الكثير.
يجيب نعوم تشومسكي، من خلال هذا الكتاب الإجابة عن التساؤل الآتي: «أي عالم ذلك الذي نرغب الإقامة فيه؟ وأي مجتمع ذاك الذي نرغب العيش فيه؟» وبصورة أدقّ: «بأي معنى من معاني الديمقراطية نريد لهذا المجتمع أن يكون ديمقراطيا؟».
يطرح تشومسكي التصور البديل للديمقراطية فهو منع الجماهير من إدارة شئونهم، وإبقاء الإعلام تحت هيمنة صارمة ضيقة.
وتتضمن الديمقراطية وظيفتين: الوظيفة التنفيذية التي يقوم بها مسئولون من طبقة متخصصة؛ أي إنهم يفكرون ويخطّطون ويفهمون المصالح العامة. ووظيفة الرعاع، وهي مشاهدة ما يجري من دون المشاركة فيه، بيد أنّ لهم وظيفة أكثر من ذلك بفضل وجودهم في إطار ديمقراطي؛ إذ يُتاح لهم بين الفينة والأخرى أن يُلقوا بثقلهم إلى جانب عضو أو آخر من أعضاء الطبقة المتخصصة، وبعبارة أخرى، يُتاح لهم القول: «نريدك زعيما لنا» ذلك لأن الدولة التي يعيشون فيها ديمقراطية وليست شمولية فاشية.
ذلك هو ما يُعرف بالانتخاب، ولكن ما إن ينتهوا من مهمة إلقاء ثقلهم إلى جانب هذا العضو أو ذاك من الطبقة المتخصصة حتى يعودوا إلى وضعهم الطبيعي كمشاهدين لما يجري، وليسوا مشاركين فيه، تلك هي الديمقراطية العاملة بصورة مناسبة.
يرى تشومسكي، أنه مازالت الثقافة المعارضة موجودة، ونمت كثيرا منذ ستينيات القرن العشرين؛ إذ لم يكن هناك احتجاج ضد حرب الهند الصينية حتى إلى ما بعد بدء الولايات المتحدة بقصف فيتنام الجنوبية، وعندما نمت كانت حركة معارضة ضيقة تتألف في غالبيتها من الطلاب والشباب، بيد أن ذلك تغير كثيرا بحلول سبعينيات القرن العشرين.
ويخلص إلى أن خطر الديمقراطية يكمن فيما إذا تطورت المنظمات ونمت، وإذا لم يعد الناس مُحَجَّرين أمام شاشات التلفزيون، فإن هذه الأفكار المضحكة ستتسلل إلى رؤوسهم، مثل فكرة الحظر المرضي لاستخدام القوة العسكرية.
ثم يقفز المؤلف من الحديث عن تداعيات الحرب الأخيرة إلى التهيّؤ لقراءة الحرب القادمة، فإن التهيؤ - كما يقول - أفضل من ردة الفعل، فيبدأ باستعراض ما تعانيه الولايات المتحدة من مشكلات تفاقمت فيها في غضون السنتين اللتين قضاهما جورج بوش من ولايته؛ إذ هبط ثلاثة ملايين طفل آخرون إلى ما تحت خط الفقر، كما ازداد الدَّيْن، وهبطت مستويات التعليم، وانتكست أجور غالبية الناس إلى المستوى الذي كانت عليه في خمسينيات القرن العشرين، وما من أحد يعمل شيئا تجاه ذلك. ففي مثل هذه الظروف لابد من صرف أنظار الرعاع عن هذه المشكلات؛ لأنهم لن يكونوا راضين لو عرفوها، فهم الذين يعانون منها، كما أنه لا يكفي توجيههم إلى مشاهدة المباريات الرياضية والمسلسلات الترفيهية؛ إذ لا بد من إثارة الخوف في نفوسهم من الأعداء. ولهذا يقول: كنا خلال السنوات العشر الماضية، ننشئ وحشا ضخما كل سنة أو سنتين يتوجب علينا الدفاع عن أنفسنا ضده، وكان هناك عدو جاهز وموجود دائما: ذلك هو(الروس)، وبما أنهم أخذوا يفقدون جاذبيتهم كأعداء، وأصبح استخدامهم يزداد صعوبة يوما بعد يوم، فكان لابد من استدعاء أعداء جدد.
من خلال مذكرات السجين الكوبي، أرماندو فالاداريز، المُفرَج عنه العام 1986، يستشهد المؤلف كيف تتم عملية الإدراك الانتقائي عند قراءة مذكرات ذلك السجين من خلال تقديم شاهدين على انتقائية هذه القراءة، ما بين قراءة وسائل الإعلام للمذكرات بقولها: «وصف دقيق لنظام التعذيب والسجون الهائل الذي يُعاقب بموجبه كاسترو المعارضة السياسية ويمحوها»، وقراءة فيما نشرته «الواشنطن بوست»، و»نيويورك تايمز»؛ إذ وصف كاسترو بأنه «أحمق دكتاتوري» وكشف كتاب مذكرات فالاداريز الأعمال الوحشية التي ارتكبها كاسترو، كشفا حاسما مقنعا، بحيث لا يمكن أن يدافع عن كاسترو سوى خفيفي العقول وباردي الدم من المفكرين الغربيين، كما قالت «الواشنطن بوست».
ومن خلال استعراض مطوّل للمقارنة بين القراءتين يصل نعومي إلى قوله: هذا يبين لك الطريقة التي يعمل بها نظام صناعة القبول جيد الأداء. تُعدّ مذكرات فالاداريز حصاة من جبل بالمقارنة مع ما كشف عنه في السلفادور.
ثم ينتقل إلى حرب الخليج، ويوضح كيف أنها أظهرت كيف تعمل أنظمة الدعاية ذات الأداء الجيد؛ إذ يعتقد الشعب أننا عندما نستخدم القوة ضد العراق والكويت، إنما يكون ذلك بسبب مراعاتنا لمبدأ ضرورة مواجهة الاحتلال غير المشروع، وانتهاك حقوق الإنسان بالقوة. ولكن الناس لا يرون ماذا يعني ذلك إذا ما طُبّقت تلك المبادئ على سلوك الولايات المتحدة. ويُعَدّ مثل هذا التمويه نجاحا رائعا للدعاية.
ويواصل نعومي قوله: «ولننظر في حال أخرى، إذا ما ألقينا نظرة على تغطية الحرب بدءا من أغسطس/ آب من العام 1990، سنلاحظ غياب صورتين قويتين، فمثلا هناك معارضة عراقية ديمقراطية، شجاعة، قوية. إنهم يقيمون في المنفى؛ لأنهم لا يستطيعون البقاء أحياء في العراق. يقيمون أساسا في أوروبا، وهم معروفون واضحون، لهم أصوات تسمع، وألسنة تتكلم. عندما كان صدام حسين مازال صديقا محببا إلى جورج بوش وشريكا له في التجارة، ذهبت المعارضة العراقية في فبراير الماضي إلى واشنطن - كما ذكرت بعض مصادر المعارضة العراقية - يحملون التماسا يطلبون فيه دعما لأحد مطالبهم وهو إقامة ديمقراطية برلمانية في العراق، فرُدوا خائبين تماما؛ لأنه لم يكن للولايات المتحدة مصلحة في ذلك. ولم يحدث أي رد فعل على هذا السلوك الأميركي في السجل العام (أي في وسائل الإعلام)».
العدد 2498 - الأربعاء 08 يوليو 2009م الموافق 15 رجب 1430هـ