حَدَثَ هذا قبل أيام فقط. قصَد أحد البحرينيين سوقاً مفتوحاً بغرض التبضع، وكان يحمل على ذراعه حفيده ذا العامَيْن. أوقفته امرأة أربعينية بطريقة فيها أدبٌ جَمْ. أفهمته أنها تدرك انتماءه الديني وأنها من انتماء آخر. ثم قالت: أقسم بالله أنني أحبكم ولا أحمل مشاعر ضدّ أحد، عشنا سنين عديدة جيراناً وأنساباً وأصدقاء وسنبقى كذلك. ثم أخذت بتقبيل الطفل المحمول على الذراع بحنان ورِقَّة، وغادرت المكان.
ذكرتني هذه المرأة الطيبة الحنونة بمواقف عديدة مشابهة صرت أتلصّص مواقعها وشخوصها وأقتفي آثارها منذ بداية أزمتنا المزدوجة (السياسية/ الاجتماعية) وكأنني أبحث عن بضع قراريط من الماس في تسرّبات نهريّة مجروفة. فتلك المواقف بالنسبة هي كالشعاع الذي يُمكن البناء والتعويل عليه مثلما عُوِّل من قبل على آحاد الناس الذين صنعوا التغيير. في ذات الوقت صرت مقتنعاً بضرورة إعادة النظر في قراءة مصطلَحَي العامّة والخاصّة في العلم والدراية بالأمور بطريقة أخرى نظراً للتغيير الفعلي الذي اجتاحهما وهما على سكّة الاختبار.
فإذا كان العوام هم أقل مرتبة من الخواص الذين يتسيَّدُون على منبر الثقافة والعِلم والريادة كما دَرَجَت عليه التعريفات، فإن الحقيقة التي أظهرتها أزمتنا هذه هي أن مَنْ كان يُعتقد أنهم رائدون ومثقفون ومُدركون ضمن جوقة الخاصّة من الناس باتوا هُم العوام، بل هم تمثلوا بالخواء الذي لا يُرتجى منه أيّ شيء. أصبح الخاصة هم المُحرضون على الافتتان وحَمَلَة راية التطييف وتقسيم المجتمع إلى سماطَين، والدعوة إلى مقاطعة الآخر وضرورة التوجس منه.
في حين أصبح العامّة من الناس (كتلك المرأة وغيرها) هم القيادات الحقيقية التي تستطيع أن تقدم النموذج والمثل الأعلى في التسامح وصدّ دعوات الاقتتال الاجتماعي. فإذا كان الحب يعتبر أعظم وأنبل في المحن بالقياس، فإن الثقافة والوعي يُصبحان أكثر اختباراً في المحن أيضاً. وقد أظهرت الأزمة في البحرين أن أدعياء الثقافة والدِّين هم أبعد ما يكونون عنهما معاً. كما بيَّنت الأزمة أيضاً أن مَنْ كانوا يُنعتون بالعامّة هم أصحاب الثقافة العمليّة لا التنظيرية والكُتبِيَّة التي ينفثها القرطاس، وهم أصحاب الدين العملي لا التنسّكي الذي لا يفقه من أمره سوى تسريج الخيول ودق طبول الحروب وتهييج الناس على بعضهم البعض.
لكم أن تتخيلوا أن شخصاً له حَمِيَّة في الدِّين كما يدَّعي، وله حظ من التعليم كما يدَّعي أيضاً، وله منصب متقدم في عمله، ويُنظر له على أنه مشروع مثقف ناهض، أو سياسي بحسٍّ نابض، لكنه يحمل بين ثناياه خطاباً وسلوكاً فيه من الجهل ومن غبار الطائفية ما يرمد العين، وكأن حظوظه في الدين والعلم والعمل والثقافة والسياسة كحظوظ بلعم بن باعورا الذي قال عنه الباري جلّ شأنه في سورة الأعراف «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (آية 176).
ثم أيضاً لكم أن تتخيّلوا، أن شخصاً له ما تيسَّر من الدِّين والعلم والثقافة بلا تعالم ولا تثاقف لا هَمَّ له سوى أن يَصِلَ هذا ويبشّ في وجه ذاك. لا يتمثل لا بالطائفيّة ولا التمذهب، ولا يُكرِه أحداً على شيء لا يُريده، ولا يشتم أحداً لا يليه في الدين أو خلافه، ولا يظلم أحداً آمنه بخيره وبشرِّه حتى، ولا يستفزّ أحداً في فكر أو معتقد أو في مكان يسكنه، وحين يجد خطأ يردُّه إلى صاحبه وحده، لا لأهله ولا لعشيرته ولا لحيّه ولا لمذهبه ولا لدينه وصل بما فعل (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لا يفعل ما يُؤذي الناس أو يُنفِّرهم وكأنهم وديعة لديه، ولم يصطف مع أحد ضد أحد، ولم يُشَهِّر بأحد، فألا يكفي كلّ ذلك أن يُغلِّب الآخرون بُغضاً بحب جَمْ تجاهه؟! إنه حقاً يستحق، وقبل ذلك يستحق أن يكون سيِّد الخواص وليس فقط خارج العوام بالضرورة.
بماذا استفادت أوروبا من خواصِّها من أمثال أوسياندر وميلانختون وبوغنهاغن وكروتزيغر إبَّان الأناباتيست عندما شرَّعوا للقتل والتنكيل بتلك الجماعة لأسباب واهية لا تزيد عن التثليث والكريستولوجية الأمر الذي انعكس سلباً على مستقبل مسيحي أوروبا بأجمعهم. لكن وفي نفس الوقت رأيناها (أوروبا) تربح كثيراً من أشخاص كان الكرسي الرسولي يظن أنهم من العوام والمعتزلين كـ سيباستيان فرانك وغاسبار شفنكفيلد حين مارسوا سلوكاً توفيقياً جامعاً وضد حروب الفلاحين واضطهاد الأناباتيست وهو ما مهَّد إلى تثبيت السلم الأهلي آنذاك في أوروبا وتشجيع الإمبراطوريات الحاكمة لاتخاذ قرارات تحاكي ذلك كما جرى في فرنسا.
لقد أظهرت التجارب أنه ومثلما تقضم الحروب والأزمات من الجغرافيا والسياسة فإنها أيضاً تأكل من قامات الرجال من مثقفين وسياسيين ومُتدينين من الذين لا يضرّهم إذا ما تهَارَش الناس اقتتالاً فيما بينهم، وأسالوا من الدَّم والحقد والكراهية المُورَّثة لأجيالهم البريئة ما يفيض على الكتف. وهم بذلك يضربون أكبر أمثولة في قصر النظر واستغلال الدين لتكريس العداوات داخل المجتمع الواحد وتلويث فطرة الناس لتحقيق أغراض خاصة ومشبوهة حتى.
ومثلما كان يقول يحي بن معاذ الرازي في أن التواضع في الخلق حسن، ولكن في الأغنياء أحسن؛ والتكبّر سمج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج، فإن البصيرة في التفكير فضيلة ولكن في العامّة أفضل، والزَّلة في السلوك خطيئة ولكن في الخاصَّة مَوْبقة. وليس من إثبات لِقِلَّة شأن شخص ما أكبر من كفره بالرجال العظماء كما كان يقول الأسكتلندي توماس كارليل، ولا أظنّ أن تلك المرأة وأمثالها لا تستحق التعظيم والثناء والإشادة بلا انقطاع
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3152 - الأحد 24 أبريل 2011م الموافق 21 جمادى الأولى 1432هـ