نبيل الشويري، أحد البعثيين الاوائل الذين التفوا حول ميشيل عفلق أكثر شخصيات البعث شهرة، وهو الذي اعتبر لوقت طويل فيلسوف البعث ومفكره الاهم، واقترن اسم البعث باسمه، على رغم ان البعث - كما يقول نبيل الشويري - أربعة أحزاب لا حزباً واحداً، أولها حزب تأسس من حلقات الارسوزي وكان نجمه وهيب الغانم في اللاذقية، وآخر من تزعمه جلال السيد في دير الزور، والثالث من أنصار أكرم الحوراني في حماة، والرابع الذي انشأه ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار بدمشق.
ومجيء الشويري إلى حزب البعث، لم يكن أساسه ومنتهاه صلة الشويري بعفلق، وكان بين اسرتيهما روابط وعلاقات وثيقة وقوية، بل اتصل بايمان الشويري بعقيدة البعث القومية العربية، التي فتحت افق حياته باتجاه التقدم، وهي واحدة من الخلاصات التي يركز عليها الشويري في خاتمة حواره عن حياته وتجربته في الحياة السورية والعربية بدرجة أقل مع صقر أبوفخر.
وأتاحت حياة الشويري وتجربته في حزب البعث فرصة تعرفه على النخبة السورية والتعاطي معها عن قرب، والاطلاع على أفكار وممارسات رموزها مباشرة أو بصورة غير مباشرة في فترة هي من أكثر فترات الحياة السورية صخباً وفوراناً، والتي امتدت ما بين بداية الخمسينات ومنتصف الستينات، وهزت حوادثها أعماق المجتمع السوري ونخبته.
وطوال رواية الشويري لذكرياته، كان يرسم ملامح للنخبة، التي رافقت تلك الفترة من الحوادث، وكان من الطبيعي، ان يتركز الرسم على الاقرب من اعضاء النخبة من جماعة البعث، وهو الحزب الذي رهن الشويري حياته من اجله، فكان مناضلاً في صفوفه منذ ان دلف سن اليفاع، وتابعه وهو طالب في جامعة دمشق التي كانت أبرز معاقل البعث في الخمسينات، ثم كان واحداً من المقيمين على هامش سلطة البعث بعد انقلاب مارس/ آذار 1963، لكنه لم يلبث أن انقلب إلى المعارضة البعثية، وقضى في صفوفها سنوات أمضى معظمها في المنفى، اختتمها في السبعينات بالتحول من السياسة إلى الثقافة، ومن العيش في الحوادث إلى مراقبتها، كما يؤكد في حواره.
لعل الابرز والاهم في الاشخاص الذين تناولهم نبيل الشويري شخصية مؤسس البعث ميشال عفلق الذي يصفه بـ «شاب فائق الذكاء، وألمعي» و«محافظ وتقليدي» إلى ان يقول «وعندما قرر الانخراط في العمل السياسي، اخترع تلفيقة فكرية»، مشيراً بذلك إلى أشهر خطب عفلق التي حملت عنوان «ذكرى الرسول العربي»، التي يقال انها اثارت عندما ألقاها بدمشق نقمة المسلمين والمسيحيين، لأن الاولين «رأوا فيها ايحاء بأن الاسلام هو انجاز عربي اكثر منه وحياً من عند الله، والمسيحيون وجدوا ان عفلق قدم تنازلاً كبيراً للتيار الاسلامي». (ص97 - 99)
وذهب نقد الشويري لشخصية عفلق وسياساته إلى الأبعد. إذ نقد مواقفه في السياسات العامة، ومنها عدم قيام عفلق بالاستجابة للمطالب الطلابية عندما صار وزيراً للمعارف العام 1949 والتي كان قد ايدها قبل سبع سنوات (ص100)، ومنها ذهابه إلى فلسطين من دون ان يشارك في حربها في العام 1947، ثم في توقيعه بيان الاستعطاف لدكتاتور سورية الأول حسني الزعيم العام 1949، كلها بعض من حوادث ومواقف تلاحقت تباعاً في حياة عفلق حتى وفاته، جعلت الشويري، يعلن قطيعة لم يعد عنها في العلاقة مع عفلق الذي عاش اواخر حياته منعماً في كنف نظام صدام حسين (ص 105)، ويضيف الشويري القول في نقده، إن عفلق صمت عن سلوكيات الكثيرين وعن «جرائم صدام حسين وبررها وايدها ببقائه امينا عاما للحزب» (ص 232).
والشويري في رسمه صورة عفلق يقارب صور آخرين من قيادات البعث، لكن بحدة اقل، وهو ما ينطبق على صورة جلال السيد أحد المؤسسين، وثالث القادة الاوائل للبعث إلى جانب صلاح البيطار وعفلق، ويصفه بالقول «كان جلال السيد ذا حضور قوي في البرلمان وفي الحياة السياسية وفي الصحافة» (ص 173)، غير ان وضعه ذاك لم يمنع تدهور مكانته بصورة سريعة في الحزب لافتراقات ايديولوجية وسياسية وخاصة بصدد الموقف من الوحدة مع العراق بينه وبين الاتجاهات الاخرى داخل الحزب، إذ لم يتمسك به عفلق، واستمر الحوراني والآخرون يحاربونه، الامر الذي انتهى به إلى الاستقالة من الحزب (ص226).
أما أكرم الحوراني الذي صار بين قيادة البعث السداسية (الحوراني، عفلق، البيطار، السيد، الغانم، وانطون مقدسي) عند دمج الحزب العربي مع البعث العام 1952 (ص 171)، فاتخذ منه موقفاً ايجابياً على رغم النقد المبطن الذي يشير فيه إلى رواية أكرم في مذكراته عن نضال البعثيين ضد دكتاتورية الشيشكلي، والتي يتجاوز فيها الكلام عن نشاط الشويري ودوره في العمل السري (ص175).
ودور الحوراني القيادي في عهد الوحدة انتهى إلى الاستقالة قبل أن يوقع الرجل وثيقة الانفصال مع الكثير من قادة البعث بينهم صلاح البيطار، الامر الذي مهد لعزل الحوراني في البعث، وحرك نحو اعادة تنظيم جماعته في حركة الاشتراكيين العرب في العام 1962، ويشير الشويري بصورة ايجابية إلى رفض أكرم الحوراني المشاركة في انقلاب 8 مارس/ آذار 1963، وينقل عن الرجل قوله، «أكرم الحوراني يقبل التعاون مع العسكريين الذين يتلقون الاوامر من السياسيين اللامعين الذين لايعملون الا من اجل الانقـلاب والسلطة فقط» (ص274 -275).
وأمين الحافظ رجل سورية القوي بعد 8 مارس/ آذار 1963 الذي تولى وزارة الداخلية ثم رئاسة الدولة، هو «مزحة لطيفة» عند الشويري الذي يقول «لقد احببت أمين الحافظ، وهناك نوع من المودة بيننا، واعرف عنه اشياء كثيرة كلها حسنة»، ثم يضيف «لكن عندما ظهر كرئيس سابق لدولة البعث على شاشة قناة «الجزيرة» في سنة 2002 شعرت بخجل شديد». ويغمز الشويري من قناة عفلق والبيطار في موضوع الحافظ، فيقول «المشكلة لا تكمن في أمين الحافظ بل في ميشال عفلق وصلاح البيطار اللذين وضعاه في ذلك الموقع، ولكن عندما جد الجد ومع مرور الايام، تبين ايضاً أنها مزحة، ولكنها ثقيلة الدم ومكلفة وخصوصا في العراق» (ص230).
ويشير الشويري بصورة ايجابية إلى شبلي العيسمي الذي كان مسئولاً عن تنظيم الحزب في الخمسينات، ثم تولى الكثير من المناصب القيادية في الحزب بين سورية والعراق اضافة إلى مناصب رسمية في سورية عام 1963 بوصفه بين «المؤسسين لحزب البعث، وهو رجل جدي ونظيف وشجاع وعاقل وزكي» (ص180).
غير أن أكثر الالتباسات في نقد الشويري للنخبة البعثية، تحيط بمنصور الاطرش الذي تربطه بالشويري علاقات من نوع خاص لعل الابرز فيها صداقتهما الطويلة والممتدة اصلاً إلى صداقة العائلتين والابوين سلطان الاطرش وحبيب الشويري، والتي ادت في احدى نتائجها إلى زواج منصور من اخت نبيل على رغم التمايز الديني.
ويؤكد أن ملامح رؤيته لشخصية منصور الاطرش موزعة «بين نزاهة الرأي وعواطفي»، إذ عواطفه ايجابية ورأيه سلبي، ويقول في منصور، إنه «رجل ذكي وحضوره لطيف جداً ووسيم ومتحدث لبق وكاتب جيد ويتقن ثلاث لغات» و«دانت له المناصب العليا في الحزب والدولة»، لكنه «حاول أن يتساوى مع أبيه» سلطان الاطرش الذي كان زعيماً حقيقياً (ص 232 -235).
ويوجه الشويري نقداً شديداً لسلوك منصور في علاقاته مع نظام البعث في سورية والعراق، مشيراً إلى دأب - منصور - في السنوات الاخيرة على «ممارسة نشاط لا طائل منه وليس فيه أية فائدة، بعضه مسموح وبعضه مدوزن في دوائر المخابرات»، ويضيف، فإن «صورة كاريكاتورية تخطر ببالي، كلما فكرت بالفارق النوعي بين مؤهلات منصور ومناقبه والحياة المحشومة التي عاشها، وسمعة ابيه وهيبة اسمه وبين الاعمال السياسية التي يمارسها منذ سنوات» (ص236 - 237).
نبيل الشويري في حواره الطويل، يسترجع صور النخبة التي صنعت تاريخ سورية في العقود الماضية وبعضها ترك بصمات عميقة في المنطقة وحوادثها، ومن جملة النخبة يركز على صور رموز من البعثيين المؤسسين في تناقضاتهم واشكالاتهم، وهذا قد يفسر بعضاً مما آل اليه حال السوريين الذين أثر البعيثون في حياتهم قبل أن يتم اخضاعهم لسلطة البعث المستمرة منذ العام 1963
العدد 1302 - الخميس 30 مارس 2006م الموافق 29 صفر 1427هـ