أكبر طبل يرقص على دقاته المتسارعة البعض هو تعليم المرأة، وتزداد حدة الرقص لترتفع وتيرة الدعاوى العريضة المتهالكة، وخصوصاً تلك التي تغمز من قناة تيار بعينه.
هناك ظلم وقهر وقع على المرأة والرجل على السواء في مجتمعاتنا، غير أن المرأة كطرف أضعف نالت حظا أوفر لعدد من الأسباب، إلا أن القراءة الساذجة للبعض هي التي تغيب حقيقة ما يجري في الأعماق.
أولى هذه الحقائق، أن ذلك الزمن تحكم في الأرض ومن عليها مستعمر أجنبي تعمد التخريب في الوطن، وكان التخلف والانحطاط حينذاك يعم كل الحياة، ولم يشذ التعليم عن هذه القاعدة، فكان الجهل نصيب الرجل والمرأة معا. وعندما افتتحت المدارس، لم يقتصر التحفظ بداية الأمر على إرسال الإناث من دون الذكور، بل شمل الجنسين، ولم يرتفع هذا التحفظ بشكل تام إلا بعد رحيل المستعمرين. ولم يكن الامتناع عن إرسال الأولاد مقتصرا على بلد دون آخر من البلدان الإسلامية، بل كان حالة شبه شاملة، وقليل من أرسلوا أولادهم وبناتهم لتلك المدارس.
كان البلد بيد الأجانب، وكانت الكثير من المدارس تنشأ وتدار بواسطة المبشرين، وهم من يضعون لها المناهج التي تسيء للدين الإسلامي، وهدفهم إما التنصير أو زلزلة عقائد المسلمين، وكانت المرأة هدفا استراتيجيا لهم، وقال المبشر المعروف هنري هريس جسب: «إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني»، وذلك لمعرفته بدور المرأة في بيتها وفي مجتمعها، لذا حتى لو كان بلجريف صادقا في هدفه حين فتح باب التعليم للمرأة، فلن يصدقه أحد.
وفي ظل الاستعمار والتبشير لم يجد الطرف الأضعف من وسيلة لمقاومة أهداف المبشرين سوى مقاطعة هذه المدارس ومحاولة إنشاء مدارس أهلية كما حدث فعلاً، لأن مدارس المبشرين كانت تستهدف التنصير وليس نشر العلوم المادية، ولذا كانوا يلزمون الطلاب بترديد الصلوات المسيحية، ودخول كنيسة المدرسة في بعض البلدان التي يتم فيها إنشاء كنائس للمدارس، يقول المبشر جسب: «...إن التعليم في مدارس الإرساليات المسيحية إنما هو واسطة إلى غاية فقط. هذه الغاية هي قيادة الناس إلى المسيح وتعليمهم حتى يصبحوا أفرادا مسيحيين وشعوبا مسيحية. ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه وليخرج لنا خيرة علماء الفلك وطبقات الأرض و... فإننا لا نتردد أن نقول إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري المسيحي». وربما تلاحظون نوعية الأفكار التي يتبناها بعض من دخلوا تلك المدارس في تلك السنوات العجاف، ومدى ولائهم للفكر الغربي لإدراك السبب وراء تحفظ المسلمين عموماً من إدخال أولادهم تلك المدارس.
عندما كان الإطار يراعي الدين والقيم والضوابط الإسلامية، عندها كان للنساء باب في مسجد الرسول (ص) يدخلن منه ليتلقين العلم، ومازال هذا الباب موجودا واسمه باب النساء، ولم يكن الإمام الشافعي حينذاك ليترفع عن الجلوس في مجلس السيدة نفيسة (ولدت بمكة سنة 145 هـ) وهي حفيدة الإمام الحسن (ع) ليتلقى منها العلم والحديث.
وأما أن يفرض عليك إطار غير الإطار، فليس من الهين الانخراط وفي كل ظرف من أجل إحداث قدر من التأثير كما يدعي البعض، وبالتالي فوجود الاستعمار كان عقبة كأداء لم يقتصر ضررها على المرأة فقط، وإن كان الضرر عليها أشد من أخيها الرجل. وبعد الاستقلال، كان للرجل السبق في ميدان التعليم وغيره من الميادين، وتأخرت المرأة - بقياس الزمن - قليلاً عن ركبه، ومثل هذه الحال لا تقتصر على مجتمعاتنا، فهكذا كان الحال حتى في أوروبا، بعد حركة النهضة في القرن الخامس عشر بكثير جدا، فدائما ما تأتي المرأة بعد الرجل.
المشكلة التي يتغافل عنها بعض الكتاب، أن المرأة في البلاد الغربية كانت وحتى زمن الاستعمار وحكمهم لبلاد المسلمين في حال تعيسة جداً، وما أخرجها لمزاحمة الرجال في المصانع إلا ضياع قيم الأسرة وتفككها، فخرجت لتقي نفسها من الجوع والعري. وكان الغربي ينظر للمرأة وحتى القرن التاسع عشر، بمثابة قطعة من أثاث بيته يتصرف فيها حسبما يشتهي، ومن أطرف ما يروى في هذا الصدد أن رجلا أعلن في إحدى الصحف عن ضياع حصان له وأظهر استعداده بأن يدفع لمن يعثر عليه مبلغاً قدره خمسة جنيهات، وصادف أن ضلت زوجة ذلك الرجل سبيلها فلم تعد إلى البيت في وقتها المعتاد، ما اضطره أن يعلن عن ذلك التخلف في الصحيفة نفسها واضعا جائزة قدرها أربعة شلنات لمن يعثر على الزوجة المفقودة!
فهل يتوقع هؤلاء الذين تقرحت أمآقيهم وهم يبكون على المرأة، أن يسبق المسلمون حكامهم ومستعمري بلدانهم في ذلك الحين حتى في مجال التعليم؟ المرأة الأوروبية نفسها لم تنل حقوقها التعليمية كاملة إلا في فترة متأخرة، فمثلا، لم يتم قبول الطالبات للدراسة الجامعية في فرنسا إلا في نهايات القرن التاسع عشر. وحتى سنة 1850 كان القانون الإنجليزي لا يعد النساء من المواطنين، وفي سنة 1938 صدر قانون فرنسي يحرم على المرأة التصرف في أموالها وممتلكاتها أو توقيع الأذونات المالية أو العقود إلا بإذن القاضي.
وفيما يتعلق بالساحة السياسية، سمح حديثاً للمرأة بالمشاركة السياسية في بعض البلدان الغربية، فسويسرا مثلا سمحت للمرأة بالترشيح والانتخاب فقط سنة 1971، ومن يشاركن في العمل السياسي من نساء بعض الدول الأوربية لا تتعدى 8 في المئة، وهذا درس لمن يقيس النساء بنفسه فيعتقد أن شوقهن عارم لكرسي البرلمان كشوقه وأكثر.
وإنني لأعجب من الدعوى التي تزعم بأن «المرأة البحرينية مازال عقلها ليس في يدها»، فأي استخفاف بعقل المرأة كهذا الاستخفاف في وقت وصلت فيه لمراتب عالية وحصلت على أعلى الدرجات العلمية؟ إن مأساة المرأة هي تلك النظرات المشفقة التي تراها قاصرة، فتذمها من حيث تريد الدفاع عنها. غريبة حقا محاولات إقحام المرأة في كل صغيرة وكبيرة تحت دعاوى مواكبة العصر والانفتاح الموجهة لهذا الشعب الذي لا يجد في نفسه عقدا من عمل المرأة ودراستها واقتحامها شتى المجالات ما دامت في إطار من دينها. وأما البكاء على المرأة لأنها لم تنل منصباً حكوميا رفيعاً، فيكفي أن هذه المناصب حرم منها الرجال الأكفاء أيضاً، وهل سياسة التمييز تفرق بين رجل وامرأة، أم أن القوم ينعقون بما لا يسمعون؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1302 - الخميس 30 مارس 2006م الموافق 29 صفر 1427هـ