العدد 1302 - الخميس 30 مارس 2006م الموافق 29 صفر 1427هـ

بدء انهيار الثورة الفرنسية وتحضير الحملة على مصر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لم تكن فلسفة الأنوار تنويرية بالكامل، فهي جمعت الاضداد في وحدة افتقدت منهجية متماسكة تقرأ الحاضر في نسق عقلاني. فالعقلانية كانت مجبولة بروح التمرد، والتمرد سيطرت عليه مثاليات اتسمت بالرومانسية التي تبالغ في قراءة الأشياء وتطمح إلى تحقيق تغيير ما حتى لو كانت صورة الجديد غير واضحة المعالم.

هذا الحماس النصف العقلاني/ النصف المثالي جعل فلسفة الأنوار مشتتة الاتجاهات ووصلت إلى النخب الأوروبية موزعة في تياراتها. فالبعض أخذ منها جانبها الاخلاقي (الرومانسي المثالي) والبعض الآخر أخذ جانبها العقلاني (التحليل الواقعي). وبين هذا النصف وذاك تشكلت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر.

معظم فلاسفة ألمانيا (بروسيا قبل تشكلها القومي) ايدوا الثورة الفرنسية وشعاراتها الاخلاقية وتعاطفوا معها وطمحوا أن يعاد إنتاجها في بلادهم التي كانت آنذاك موزعة على ممالك وكانتونات.

كانط تأثر بحركة التنوير على طريقته، كذلك فعل فيخته، وشيلر أيضاً اهتم بنتاجات تلك الحركة وثورتها. والأهم من كل هؤلاء كان هيغل الذي ايد الثورة واستمر يدعم أفكارها على رغم حملة بونابرت واحتلاله برلين.

هيغل قرأ الثورة الفرنسية من زاوية المستقبل لا من جهة ما اقترفته من أخطاء وحروب. كذلك نظر إليها من زاوية تطور الاجتماع البشري (العمران). وبرأيه حصلت في فرنسا لأن فرنسا متطورة ومتقدمة تاريخياً على ألمانيا.

في كتابه عن «فلسفة التاريخ» أورد هيغل فقرة تقول ما معناه «لو كانت الغابات الألمانية موجودة في فرنسا لما قامت الثورة». فالغابة برأي هيغل تعني التأخر. فهي الدليل الثقافي على عدم تطور المجتمع من مرحلة الصيد والاعتماد على الاقتصاد الطبيعي إلى مرحلة الزراعة والاستقرار. فالزراعة تعني البدء في قطع الأشجار لتأمين مساحة لتدخل الإنسان واستغلال الأرض لأنشطة إنتاجية.

هذا الموقف الهيغلي يشير إلى وجود ذاك الرابط الايديولوجي بينه وبين فكر الثورة الفرنسية وشعاراتها على رغم اجتياح نابليون تلك المدينة التي كان يدرس في جامعتها. بينما فيخته تغير موقفه بعد الاجتياح وتحول من فيلسوف معجب بالثورة ونصير لأفكار فلاسفة الأنوار إلى عدو يكره فرنسا وثقافتها وحضارتها. وشكل الانقلاب في فلسفة فيخته وخصوصاً في خطاباته إلى «الأمة الألمانية» بداية وعي قومي أسهم في تكوين تيار متطرف معاد للسامية من جهة ويحمل من جهة أخرى دعوة لتوحيد ألمانيا. وهذا ما حققه لاحقاً بسمارك.

هذه الانقلابات المترافقة مع تحولات سلبية في علاقات الأمم مهدت لها ايديولوجيا تلك السياسات التي انطلقت بعد فشل الثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها واصطدامها بطريق مسدود.

الطريق المسدود فتح الباب لدخول نابليون بونابرت. هذا الجنرال الكورسيكي الذي أظهر عبقرية حربية في حملاته على دول الجوار وفي دفاعه عن حدود فرنسا وثورتها.

قادة الثورة وجدوا في نابليون ملاذهم الآمن. فهو ابنها وفي الآن يملك تلك القوة القادرة على احتواء أزمتها وما اطلقته من تداعيات فوضوية تمثلت في الانتقال من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين. وحين استقرت الثورة على اليمين كان لابد من جنرال يعيد تقويمها وإعادة فرنسا إلى واجهة أوروبا وقيادة القارة ولو عن طريق الحروب.

آنذاك كانت الثورة تعاني من حصار أوروبي. فكل الممالك وجمهوريات المدن والأنظمة الملكية وجدت في شعارات الجمهورية الوليدة مجموعة أخطار تهدد أمن القارة وتزعزع استقرارها لمصلحة الإسلام والمسلمين والسلطنة العثمانية. ولهذا السبب تحالفت كل الدول والممالك الأوروبية آنذاك لمحاصرة الثورة ومنعها من الانتشار خارج حدود فرنسا.

الحصار السياسي لم يمنع فكر الثورة من الانتشار. فالنخبة الألمانية تأثرت بشعارات الثورة وبفلسفة الأنوار واجتهدت في قراءة أفكارها وأضافت عليها الكثير من الشروحات والتفسيرات. النخبة الإنجليزية كانت أقل تأثراً نظراً إلى تلك الإنجازات (تحديث الدستور وتوسيع صلاحيات البرلمان) التي حققتها المملكة بعد ثورة كرومويل الجمهورية في القرن السابع عشر.

المخاوف إذاً كانت موجودة وهي دفعت الدول الأوروبية إلى التضامن وتشكيل جبهات متحالفة سياسياً وقوات عسكرية مشتركة لمواجهة هذا الخطر الفرنسي المتمثل في الثورة وأفكارها. فالثورة اتهمت آنذاك بأنها تسهل أو تنفذ مؤامرة إسلامية تقودها السلطنة العثمانية ضد أوروبا (النمسا تحديداً) من خلال تقويض دولها من الداخل.

نظرية «المؤامرة» الإسلامية ليست جديدة على أوروبا. فهي موجودة منذ القدم ودائماً يعاد إنتاجها واطلاقها في سياقات مختلفة. مثلاً حين بدأ مارتن لوثر حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ضد الكاثوليكية اتهمته الكنيسة بالتعامل مع المسلمين لتقويض المسيحية في أوروبا لمصلحة جيوش الإسلام التي تهدد أمن القارة.

وحتى يبعد شبهة التعامل مع السلطنة العثمانية والمسلمين قام لوثر بنشر سلسلة مقالات تهاجم الإسلام والنبي (ص) لدرء التهمة عن نفسه. وبسبب هذا الصراع الداخلي دفع المسلمون لاحقاً الثمن من غير وجه حق. وهكذا بعد أن اتهم لوثر بالعداء لليهود واليهودية في مقالات نشرها في مطلع الحركة البروتستانتية تحول في النصف الثاني من تاريخ حركته إلى قوة معادية للإسلام والمسلمين لرد تهمة الكاثوليك التي وصمته بالتعامل مع الأجنبي (السلطنة العثمانية).

العداء للإسلام إذاً ليس جديداً. فهو يتصل تاريخياً بسلسلة محطات تعود إلى ما قبل مارتن لوثر. واستمر العداء إلى ما بعد بونابرت.

في الحقيقة هناك بعض العناصر شجعت على اطلاق هذه الاتهامات. والعناصر ليست صحيحة كلها، ولكنها تكتسب بعض الصدقية في اجزاء منها.

مثلاً حين قامت حركة الإصلاح الديني بقيادة لوثر تعامل معها المسلمون وكذلك السلطنة إيجابياً إذ وجدوا في بعض أفكارها خطوات تحديثية (رفض الأصنام والبساطة والتواضع والعودة إلى روح الدين) تلتقي مع الإسلام وبساطته وتواضعه في عباداته وتعامله الديني مع الإنسان. كذلك حين اندلعت الثورة الفرنسية واطلقت وثيقة «حقوق الإنسان» وأعلنت الدستور مضافاً إليهما بعض مفردات تسللت من إشعاعات «فلسفة الأنوار» وجدت السلطنة العثمانية في تلك الحركة التنويرية بداية إصلاحية تقترب في مفاهيمها وأفكارها من الإسلام. وكذلك وجد المسلمون في مصطلحات «الجمهورية» و«الشورى» و«التسامح» و«الحرية» و«الاخاء» و«المساواة» و«العدل» و«المستبد العادل» بداية مصالحة بين المسيحية والإسلام أو بين السلطنة وأوروبا.

إلا أن الرؤية من زاوية الدول والممالك الأوروبية كانت مختلفة. فالقارة ضربت الحصار على الثورة الفرنسية ولم يجد قادة الثورة من نصير لهم في العالم آنذاك سوى السلطنة العثمانية. فهذه الدولة الإسلامية على رغم ضعفها وتراجعها كانت عظمى آنذاك ويحسب لها حساب في المعادلة الدولية.

تأييد السلطنة للثورة أو على الأقل تعاطفها معها كان كافياً لتعزيز فكرة «المؤامرة» وتعميمها في الشوارع لحشد الناس وتأليب المشاعر ضد أفكار فلاسفة الأنوار. فأوروبا اتهمت السلطنة بأنها تقف وراء الثورة بقصد اضعاف القارة وزعزعة استقرارها لتخفيف الضغط على الجبهات العسكرية (أوروبا الشرقية) التي كانت اسطنبول تعاني من هجمات مستمرة عليها. وأرفقت دول وممالك أوروبا اتهاماتها بجملة من المعلومات تشير إلى وجود شبهة دعم للثورة من خلال طبع منشوراتها وتوزيعها والترويج لأفكارها وتمويلها أحياناً حتى تتحين المناسبة للانقضاض على المسيحية في أوروبا.

هذه التهمة أحرجت كثيراً قادة الثورة الفرنسية وحاولوا نفيها من خلال التأكيد على فكرة العداء للإسلام والمسلمين. آنذاك ذاع صيت بونابرت وبرز في أوروبا قائداً عسكرياً لعب دوره في تنظيم الدفاع عن فرنسا وحماية حدودها ومصالحها، وحقق إنجازات عسكرية في مختلف معاركه على جبهات النمسا وإيطاليا وألمانيا. فهذا الجنرال كان محبوباً من مختلف تيارات الثورة وخصوصاً بعد نجاحه في هزيمة النمسا (عدوة السلطنة) في العام 1796 (1211هـ) واختراق جيوشه الالب واستيلائه على شمال إيطاليا وتهديد فيينا بالحصار. وهذا ما أدى إلى شل قوة النمسا واجبارها في العام 1797 على توقيع معاهدة تنازلت بموجبها عن أراض لفرنسا.

رفع هذا الانتصار من شعبية الجنرال واستقبل في باريس بطلاً وبات يتمتع بامتيازات خاصة اعطته فرصة لاستخدام رصيده في تحقيق أحلامه التوسعية في الشرق.

التاريخ ماكر كما يقول هيغل. فالمكر أدى إلى أن يدفع الإسلام والعالم الإسلامي والمسلمون ثمن الانقسام والأوروبي. حصل هذا الأمر خلال مرحلة الإصلاح الديني وتكرر مرة أخرى في مرحلة الأنوار.

الحملة على الشرق كانت حاجة فرنسية بامتياز. فهي أولاً ترفع التهمة عن الثورة بأنها تنفذ «مؤامرة» إسلامية، وهي ثانياً تنقل المعركة من أوروبا إلى ديار بعيدة، وثالثاً تفتح أمام فرنسا مجالات جغرافية بديلة تنافس بريطانيا في السيطرة على التجارة البحرية.

اختار نابليون مصر لأسباب مختلفة. فمصر تشكل نقطة استراتيجية مهمة في خطوط التجارة. فهي تقع على مفصل بحري يربط المتوسط بالأحمر ومن يستولى عليه يقطع الطريق على الإدارة البريطانية التي كانت تخطط للهيمنة على معابر (مضائق وقنوات) المواصلات من جبل طارق (المغرب وإسبانيا) إلى السويس (مصر وفلسطين) إلى عدن (الميناء المطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي).

إلى ذلك، هناك مسألة تتعلق بالظروف السياسية التي كانت تمر بها مصر. فهذه البلاد منذ الفتح العثماني في عهد السلطان سليم الأول في العام 1517 (923هـ) كانت تعيش حالاً ملتبسة. فهي تعود إدارياً إلى السيادة العثمانية ولكن حكامها الميدانيين ينتمون إلى عهد المماليك. هذا الالتباس بين السيادة السياسية والحكم الميداني اضعف مصر وشل دورها ومكانتها، الأمر الذي شجع الجنرال على تنفيذ حملته العسكرية.

بونابرت كان بحاجة إلى تلك المعركة نظراً إلى رمزيتها في العقل الجمعي الأوروبي وكذلك تعطيه دفعة سياسية قوية قد تسعفه في الاستيلاء على الحكم في فرنسا.

سجلت الحملة على مصر وفلسطين سلسلة نقاط لمصلحة نابليون لكنها اضعفت استراتيجياً موقع فرنسا في المشرق واعطت ذريعة لبريطانيا بارسال قواتها والتحرك للدفاع عما تسميه ممراتها المائية وتجارتها الدولية مع الشرق.

كانت الحملة على الشرق بداية صعود نجم الجنرال في الغرب. فبعد تلك الحملة وفشلها عسكرياً وسياسياً سيعود «البطل» نابليون (فاتح الشرق) إلى بلاده كجنرال منقذ من الفوضى والانهيار.

هذا ما حصل بعد أن نفذ تلك الغزوة إلى مصر. فهذه الهجمة سيكون لها تأثيرها في استدراج المنطقة (العربية المسلمة) إلى ساحة الصراع الدولي. كذلك ستتخذها تيارات كثيرة من النخب العربية مناسبة لبدء تاريخ ما تسميه «عصر النهضة العربية». وهذا أيضاً من الأخطاء الشائعة في المنطقة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1302 - الخميس 30 مارس 2006م الموافق 29 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً