في البرلمان الهندي المنصرف توّا عَقَدَ المجلس المذكور ستة وأربعين اجتماعا فقط. الأرقام تشير إلى أن عشرة في المئة من النّواب لم يُشاركوا في إحدى المناقشات. كما طُرِدَ أحد عشَرَ نائبا بسبب تلقّيهم رِشَا.
الغريب أن البرلمان الهندي اضطر لنقل الكثير من أعضائه من السّجن (اثنان منهم يقضيان عقوبة السّجن المؤبّد بتهمة القتل) إلى قبّة المجلس خلال المناقشات للتصويت. وإن بدا الأمر غريبا هنا فإن وجه غرابته الأكثر إيلاما يكمن في الجرائم التي ارتكبها أؤلئك النوّاب.
فمن أصل 543 فائزا في الانتخابات التي أتت بذلك البرلمان البائس كان 128 نائبا يواجهون تهما جنائية بينها 84 قضية قتل و17 قضية سلب و28 قضية سرقة وابتزاز أموال. وبينهم نائب متّهم بسبع عشرة جريمة قتل!.
بالتأكيد فإن ذلك يحصل لأن القانون الهندي لا يمنع المتّهمين من الترشّح للمناصب قبل أن يُدانوا. بل إن حتى المُدان يُمكنه مواصلة عمله ما دامت قضيته في أروقة محاكم الاستئناف الهندية. (راجع ما كتبه جيسون أوفردورف في مجلة «نيوزويك» العدد 456).
هنا أقِف عند ذلك لأستحضر ما يجري في البرلمان العراقي هو الآخر هذه الأيام. فقد أعلنت لجنة التحقيق البرلمانية، والمعنيّة بملاحظة الإجراءات القانونية لطلبات رفع الحصانة النيابية، موافقة مئة وخمسة أعضاء من النّواب لرفع الحصانة عن أحد عشر نائبا كان مجلس القضاء الأعلى طالب بالتحقيق معهم في قضايا «إرهاب وفساد وتشهير».
ضمن هذين النموذجين التشريعيين وبعيدا عن أصل الموضوع إن كان مُسيّسا أم لا يُمكن القول إن المشكلة لا تكمن في رفع الحصانة من عدمها، أو تثبيت الاتهام من البراءة، بقدر ما تكمن في كيفية وصول المُشكل الحقوقي والقانوني لممثلين أتوا عبر صناديق الاقتراع.
بالتأكيد ليس كلّ نائب برلماني يكون نزيها لكنه ومن غير المعقول أيضا أن يتحوّل ذلك النائب نحو ما يهرف به آحاد الناس وعمومهم. فالكفايات الذاتية مطلوبة للحيلولة دون الوقوع في خلَل. ونيابتهم ناظرة إلى مقام يَسَع العنوان الموضوعي للنيابة.
فحين يخلط النائب ما بين متطلبات العمل النيابي وأعمال شخصية سلبية الأخلاق والسلوك فإن ذلك يعني الوصول إلى تُخوم السعي لعدم الإخلال بالتوازن المفروض بين المبادئ الدستورية ودور العدالة في حماية حقوق ومصالح وحريات الأفراد والتطور الديمقراطي.
بل أكثر من ذلك، فالتجارب الديمقراطية هي قبل كلّ شيء انعكاس لواقع اجتماعي وسياسي وحتى تاريخي تنمو أنويتها ثم تكبُر ثم تزدهر. وهذه المراحل هي بافتراض التكامل وترشيد السلوك لا تكون كذلك إلاّ بالممارسة الصحيحة، وتكثير وتكريس العمل التقنيني وتشذيبه وليس بالجنوح والتورّط في قضايا هي أصلا محلّ تصدّي من قِبَل المُشرّع.
إن التجارب البرلمانية هي فرع أصيل من الحالة الديمقراطية، وهي تتّسق وطبيعة تطور تلك الحالة. بمعنى أن مجالس النواب يزيد عطاؤها، وتكون قادرة على تقديم أفضل الحُلول والمرئيات عندما تكون مُتصدّية لأدق تفصيلات حاجات الدولة والمجتمع المباشرة وغير المباشرة، وهي تكون عكس ذلك تماما عندما يشتغل منتسبوها بمِهَن قطّاع الطرق.
حينما نعود إلى المؤسسة التشريعية، لا يُمكن إلاّ أن نفهم الإمكانيات التي تمتلكها، والتي نُؤهلها للتصدي لأكثر مشكلات الدول تعقيدا. فهي بالأساس حالة اجتماعية (شخصانية) مُصغّرة تعكس الاتجاهات والرغبات والميول العاملة أفقيا داخل النسيج الاجتماعي، لذا فمن المعيب أن يتحوّل ذلك الانعكاس إلى صورة سيئة يُمكن لأي مراكز قياسات الرأي العام أن تُطابق قمّة الهرم بقاعه، وتُعطي مُخرجات اجتماعية سيئة.
وبالتالي فهي (مجالس النواب) حينما تتصدى لأحدى المشكلات فإنها تُعطي رأيا اجتماعيا توافقيا يُحسّ فيه الناخب بأن صوته قد وصل وتمّ الجهر به. وهو ما يعني أن إشراكا شعبيا متقدما يكون وازنا ومشروعيا لأي ملفات قد تُعرَض.
أمّا إذا تجلّى سلوك النوّاب على شكل تمثّلات جنائية فإن الناخب بالتأكيد سيصاب بالإحباط الشديد وهو يرى من أعطاهم صوته يبيعونه على مصطبات جنائية أو داخل أروقة مافيا المال، كما حصل أخيرا في بريطانيا إثر تداعيات فضيحة نفقات نواب مجلس العموم.
حين يرتقي العمل البرلماني عن طريق نواب المؤسسة تُصبح إمكانات مجالس النواب بحجم المسائل المعروضة، لأن الغاية هي إعطاء أكبر قدر من المشروعية على القرارات والخطط، لإيجاد مساحة ورؤية لا يختلف عليها الكثير من الناس، الأمر الذي يعني المزيد من الأمان الاجتماعي والتشريعي. أما إذا انحدر السلوك الشخصي فإنه يُصار إلى انحدار مؤسسي أوسع
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2459 - السبت 30 مايو 2009م الموافق 05 جمادى الآخرة 1430هـ