كيف تقرأ المقاومة في لبنان الانتخابات النيابية التي ستعقد في 7 يونيو/ حزيران المقبل؟ بعيدا عن التصريحات «الطاووسية» التي يطلقها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تبدو النتائج متجهة نحو التوازن الدقيق بين قوى 8 و14 آذار. فالنظام الانتخابي الذي يعتمد الدوائر (26 دائرة) يمنع حصول أي فريق على غالبية مطلقة تسمح له بتعديل الدستور أو أخذ مواقف سياسية تتجاوز سقف التوافق الوطني. وبسبب طبيعة قانون الانتخاب الطائفي والمذهبي يصعب على فريق أن يتحكم بغالبية المقاعد باعتبار أن التوزيع النسبي (المحاصصة) يعطل إمكان حصول طرف على غالبية كاسحة.
الغالبية النسبية تشكل ذاك السقف الذي يمكن لقوى 8 و14 آذار التحرك تحته وبالتالي فإن حسابات المقاومة لا تستطيع توقع نتائج باهرة لمصلحتها مهما حاول الجنرال ميشال عون تجييش الشارع المسيحي طائفيا ومذهبيا تحت عنوان «استرداد حقوق المسيحيين». فالشعار البراق الذي يلعب على مفردة «الاسترداد» قد ينقلب على صاحبه لأنه يشعل النار الأهلية بأدوات لا تسعف حليفه حزب الله ولا ترضي حليف حليفه نبيه بري (حركة أمل).
اللعبة الطائفية- المذهبية التي يستخدمها الجنرال لكسب الأنصار في محيطه المسيحي تحولت في الشوارع الأخرى إلى مواجهات سياسية باعتبار أن فكرة «استرداد حقوق المسيحيين» تعني منطقيا افتعال اصطدامات أهلية ضد السنة والشيعة والدروز. وهذا الاحتمال المستبعد لا يصب في مصلحة الموارنة والطوائف المسيحية الأخرى وربما يؤدي في حال التورط به إلى تعديل التوازن في مرحلة لاحقة لجانب الأكثرية المسلمة.
مشكلة حزب الله مع الجنرال عون كبيرة على أرض الواقع وهي لا تقل في تداعياتها عن تلك المشكلات الموصولة بالطوائف الأخرى. فالجنرال يريد أن يؤسس زعامته المسيحية اعتمادا على الأصوات الشيعية في أقضية بعبدا وزحلة وجبيل كذلك يريد أن يقود الموارنة اعتمادا على الأصوات الأرمنية في دوائر بيروت الأولى والمتن الشمالي وزحلة... وهذا ما يدفعه إلى رفع سخونة خطابه السياسي في نطاق محيطه المسيحي من دون انتباه إلى ردود فعل الشارع وتخوفه من وجود أجندة تزعزع صيغة الكيان وتوازناته.
هذه المشكلة التي بدأت روافدها تتجمع منذ فترة يمكن أن تتحول بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات إلى أزمة سياسية تتطلب آليات ذكية للتعامل معها لأن المؤشرات تدل على تراجع شعبية عون في المحيط المسيحي وطائفته المارونية. والتراجع الذي يريد الجنرال تعويضه بالأصوات الشيعية والارمنية في الدوائر الخمس لا يمكن أن يعطي المردود السياسي المطلوب لتغطية المقاومة في المرحلة المقبلة. وخطأ خطاب المقاومة الأساسي بات يتركز سياسيا في ذاك التعامل غير المحسوب مع الأطراف المحلية والقوى الداخلية المتنوعة طائفيا ومذهبيا ومناطقيا. وحصر خطاب المقاومة في دائرة دعم الجنرال وطموحاته الشخصية يعزل الأنصار عن الإطار الوطني العام ويعرض مشروعها السياسي للاهتزاز بسبب الإفراط في المراهنة على فريق ضد آخر.
قوة المقاومة تكمن في الارتفاع بخطابها السياسي فوق الانقسام الأهلي والتجاذب الطائفي- المذهبي، وضعفها يبدأ في لحظة الانجرار إلى استطلاعات انتخابية تحتاج إلى صدقية لإثباتها. ومصلحة المقاومة تقضي بأن تتحول إلى قوة سياسية جامعة لا إلى طرف جاذب يعطل التوحد الوطني المطلوب لحماية خطاب يتعرض للقصف اليومي من مختلف الجهات الداخلية بذريعة تدخله في أمور لا علاقة لها بفكرة الدفاع والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية.
الحياد الإيجابي
الحياد الإيجابي في بلد تتقاذفه أهواء الطوائف والمذاهب (الملل والنحل والفرق) مسألة صعبة ولكنها مطلوبة لضمان السلم الأهلي ومنع خطاب المقاومة من الانزلاق السياسي نحو الأزقة والأحياء الشعبوية التي لا تقرأ جيدا وتنجر بسرعة إلى الخطابات النارية والثأرية.
لنفترض جدلا أن المقاومة تراهن على فوز الجنرال في الانتخابات. هذا الاحتمال مسألة مستبعدة لحسابات جغرافية وديموغرافية معقدة ولكنها حتى لو تحققت في المجلس النيابي فإنها لن تشكل غالبية تحتاجها المقاومة لتأمين ذاك الغطاء الدستوري الذي يعطي خطابها السياسي شرعية قانونية وضمانات دولية. فالمقاومة تحتاج إلى كل القوى والفرقاء حتى تتحول إلى نموذج وطني يشد الأطراف إلى نقطة الدائرة وإلا أصبحت مجرد قوة سياسية محلية تتحرك على هامش الطوائف.
حسابات المقاومة حتى الآن تعتمد على معادلة انتخابية خاطئة تؤدي إلى حشر مشروعها السياسي في غالبية شيعية وأقلية مسيحية وتستبعد من إطارها الوطني مجموعات أهلية تشكل غالبيات محترمة ومعتبرة في طوائفها ومذاهبها ومناطقها. ومثل هذه الحسابات التي قد تأخذ مشروعيتها من معادلة ظرفية ومؤقتة تتطلبها لعبة الأرقام في دوائر انتخابية معينة إلا أنها خاطئة في مردودها السياسي العام حين تنتهي عملية فرز صناديق الاقتراع. وحشر خطاب المقاومة في قراءات صغيرة وضيقة تتحكم في آلياتها سياسات الأحياء والأزقة يعطل إمكانات إعادة أحياء ثوابته الوطنية وتعويمها في معادلات دولية وتحولات إقليمية واحتمال حصول عدوان إسرائيلي جديد على بلاد الأرز.
كل هذه الفضاءات القريبة والمجاورة والبعيدة تفترض قراءة نظرية تتجاوز المرحلة الظرفية في اعتبار أن مصلحة المقاومة تقتضي إعادة إنتاج خطاب سياسي يتناسب مع الاحتمالات والتحولات التي يمكن أن تطرأ على مسرح «الشرق الأوسط». والمراهنة على جنرال من دون جنود في معركة كبرى تساهم في توريط المقاومة في حروب صغيرة لا تنتج سوى المزيد من العزلة والانطواء في دوائر جزئية ومحاصرة.
مصلحة المقاومة الآن وغدا المحافظة على الدولة والاستفادة من قوتها القانونية وموقعها في دائرة التوازن الإقليمي والغطاء الدولي. و«الدولة» لا تزال في منطق السيادة والقانون تشكل العنوان الوحيد المعترف بشرعيته في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وكل المنظمات الدولية والإقليمية. وهذه القوة السيادية تعتبر في الأعراف الدولية مظلة شرعية تغطي العملية السياسية في البلدان المعترف بوحدتها الوطنية واستقلالها ولذلك فإن المحافظة عليها وعدم التفريط بقوتها القانونية يؤسسان لنوع من التوازن المطلوب لضبط الأمن الداخلي في إطار دستوري يضمن المصالح والحقوق.
قراءة المقاومة للانتخابات النيابية ليست دقيقة حتى الآن باعتبار أن معادلة التوازن الطائفي- المذهبي لا تعطي 8 آذار الغالبية. وفي حال نالت الأكثرية فإنها ستكون ضئيلة في المقاعد وضعيفة في تمثيل الشارع وحساباته الموزعة سلفا على قنوات نظام يعتمد المحاصصة بين الطوائف والمذاهب والمناطق. فما الفائدة من زعيم مسيحي أسس قوته النيابية على أصوات الشيعة والأرمن في خمس دوائر؟ وما قيمة غالبية برلمانية محاصرة سياسيا من مختلف الأطراف والجهات المحلية؟ وماذا تعني أن تنجح المقاومة وتسقط الدولة في فترة لايزال «الشرق الأوسط» ينتظر إعادة هيكلة لخريطته؟
كل هذا المردود السياسي يؤكد أهمية إنقاذ خطاب المقاومة ومنعه من الانزلاق إلى دوائر انتخابية ضيقة باعتبار أن النتائج لن تكون حاسمة وبالتالي ليست كافية للتعديل الدستوري أو حتى إعادة إنتاج سلطة سياسية بديلة. فالمقاومة بحاجة إلى دولة للحماية والجنرال صاحب الخطاب الطائفي- المذهبي ليس الشخص المؤهل ليلعب هذا الدور
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2459 - السبت 30 مايو 2009م الموافق 05 جمادى الآخرة 1430هـ