خلال سنوات الانتفاضة، حفظ الجميع عن ظهر قلب شعار «البرلمان هو الحل»، وأصبح هذا الشعار مكتوباً على معظم الجدران في مختلف مدن وقرى البحرين، ولا تزال بعض الشواهد حاضرة تذكرنا بالعصر الذهبي لهذا الشعار الذي صار عنواناً لفترة نضالية دامية قدم خلالها شعب البحرين أكثر من 40 شهيداً وآلافاً من الجرحى والمعتقلين على درب الحرية.
لقد تزين جدار منزلنا القابع في إحدى زوايا قرية عراد بواحد من هذه الشعارات «البرلمان هو الحل»، وعلى رغم أن الأجهزة الأمنية بادرت إلى إزالة غالبية الشعارات من على الجدران، فإن جدارنا احتفظ بالشعار الرمز حتى صار كفنجان القهوة أو صحيفة الصباح الذي افتتح به يومي منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وغالباً ما يكون هذا الشعار هو آخر ما تقع عليه عيناي قبل أن أخلد إلى النوم وأنا أدلف إلى منزلي في وقت متأخر كل يوم.
ولا أخفي على السادة القراء كم أن هذا الشعار كان يشدني ويأخذ من تفكيري حيزاً كبيراً، وفي كثير من الأحيان أسرح بذاكرتي بعيداً متسائلاً عن مدى صحته وملاءمته التاريخية، سواء لتلك المرحلة أم لهذه المرحلة التي نعيشها حالياً، ومن دون شك فإن الغالبية العظمى من الناس تعرف بأن هذا الشعار كان هو الشعار المركزي ابان انتفاضة التسعينات، وبالتالي ليس هناك أحد يختلف بشأن مدى أهميته وصحته خلال تلك الفترة، إذ كان ينظر إلى البرلمان باعتباره المنقذ من كل المآسي.
لكن البرلمان الذي جاء بعد نضالات طويلة، وتضحيات جليلة وكبيرة، لم يكن هو البرلمان الذي نظر له قادة الانتفاضة ووقودها، وحشدوا له الشوارع بالأجساد والكتل البشرية والأصوات المنادية الهاتفة بأعلى ما تملك من قوة «البرلمان هو الحل»، لذلك فإن كثيرين سيختلفون في الطرح عن مدى مناسبة طرح هذا الشعار في الوقت الراهن.
إلا أنني نظرت للموضوع من جانب آخر، فوجدت البلاد تعيش حالات من الاحتقان والتوتر التي لا تنقضي، وتمعنت جيداً فرأيت وتيرة الحوادث السياسية تتسارع، ودائرة العنف تكبر وتتسع يوماً بعد يوم، كما وجدت أن من يدفع الثمن مرة أخرى هم الناس الذين دفعوا الثمن في المرة الأولى ذاتهم، وجلهم من الفقراء والمحرومين، من هنا برزت أمام عيني عبارة «البرلمان هو الحل» مجدداً.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن طرح أو تبني هذا الشعار في هذا الوقت بالذات يجلب الوجع، ويجمع اللعنات والشتائم من قبل كثير من الأصوات التي ترى بأن البرلمان الحالي، إن هو إلا كالطبل المجوف، لا تسمع صوته إلا بعد أن تشبعه ضرباً، وعلى رغم أني لست في وازع الدفاع عن البرلمان القائم ولا عن أعضائه، كما أني لست من هواة الدفاع عن الأخطاء التي يتحملها من تعمد تفصيل مجلس النواب بطريقة «الترزية الطائفية»، ثم ضم إليه مجلس الشورى ليكون رقيباً عليه يرشده ويشكمه ويعدل من قراراته متى ما شابها الاعوجاج ذات اليمين أو ذات الشمال، على رغم أن دور هذا المجلس لم يختبر بعد! فإنني كنت ولاأزال أعتقد أن الدخول إلى البرلمان سيساهم في تغيير الكثير من قواعد اللعبة السياسية في بلادنا.
ولست هنا أفرق بين الموالين للحكومة أو المعارضين لها، أو حتى أولئك المعتدلين الذين يعتقدون بأن مسك العصا من منتصفها يمكن أن يساهم في ضبط التوازنات القائمة بين مختلف الفرقاء، حتى لا تحدث الواقعة، لكنني أعتقد بأن من المهم أن يبدأ جميع الفرقاء في نقل خلافاتهم إلى ساحة مجلس النواب المقبل حتى تكون الأفعال وردات الأفعال محسوبة، ولا تنعكس على حياة الناس اليومية سلباً على الدوام.
لقد تحولت الكثير من القضايا المختلف عليها بين الحكومة والمعارضة بكل تلاوينها، المنضوية تحت قانون الجمعيات السياسية أو المتمردة عليه، إلى ساحة حرب حقيقية يدفع ثمنها باهظاً أشخاص هم في غالبية الأوقات بعيدون كل البعد عن مركز اتخاذ القرار سواء بالنسبة إلى الفعل أو لردة الفعل، فالمتظاهرون يختارون أماكن تجمهرهم واحتجاجاتهم بحسب ما يرونه مناسباً لهم، جماهيرياً وإعلامياً، من دون استشارة أحد من أهالي هذه الأماكن، وفي الوقت ذاته فإن الحكومة في تعاملها العنيف مع هؤلاء المحتجين، لا تأخذ وجود المواطنين القاطنين بهذه الأماكن في الاعتبار، ولا تكترث لما يمكن أن يلحق بهم من أضرار وخسائر مادية وصحية.
وعلى الجانب الآخر أصبح مجلس النواب حقيقة واقعة، وأصبح الطريق إليه مفتوحاً أمام الجميع، وفيه ومن خلاله يمكن أن يمارس المتخاصمون استعراضاتهم وبرامجهم وتكتيكاتهم وصراعهم، مع الإقرار بأن نواقص العمل البرلماني كثيرة، وأن القوانين والأنظمة والضوابط التي تتحكم فيه ليست بالمستوى المطلوب، ولا توفر أجواءً مناسبة من حرية التحرك، لكن البرلمان في جميع الأحوال يوفر مجالاً للمنازلة والصراع القانوني والدستوري والديمقراطي، أفضل وأحسن بمئات المرات من تلك الأجواء التي توفرها المسيرات والمظاهرات المتسمة بالعنف والعنف المضاد.
«البرلمان هو الحل» عبارة يجب إعادة الاعتبار لها من قبل الجميع، مع فارق النظر إليها كل بحسب زاويته، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، والمبادئ التي يؤمن بها، فمن خلال البرلمان يستطيع المؤمنون بجدوى المجلس أن يقدموا براهينهم على ذلك، كما يستطيع المشككون إثبات صحة وجهة نظرهم، في الوقت الذي يستطيع الراغبون في الدخول إلى حلبات التحدي ومعارك كسر العظم مع الحكومة، أن يحشدوا أنصارهم ويمسكوا بزمام المبادرة فيعطلون ما يريدون أن يعطلوه من قوانين وأنظمة وقرارات وموازنات، ليثبتوا أن الحكومة عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها، مع حق الحكومة بأن تثبت قدرتها على إدارة مختلف شئون البلاد بشكل هادئ ومتزن.
إنها دعوة لترشيد الخلاف وتهدئته من خلال اختبار برامج ونوايا الجميع بشكل حقيقي على أرض الواقع داخل البرلمان بعيداً عن استعراض العضلات والقوة، فنحن أمام مفترق طرق ولابد لنا من القول مجدداً... «البرلمان هو الحل»
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1300 - الثلثاء 28 مارس 2006م الموافق 27 صفر 1427هـ