ليست الشعوب العربية بحاجة إلى يوم اضافي لمعرفة نتائج قمة الخرطوم. كذلك ليس من الضرورة أن تنتظر بعض الوقت حتى تكتشف أن ما اتفق عليه من قرارات لن يجد تلك الآلية القادرة على المتابعة والتنفيذ. فالمكتوب كما يقال يفهم من عنوانه. والبدايات دائماً تقرر النهايات.
من اليوم الأول للانعقاد ظهر مدى التفكك العربي وعدم اكتراث معظم زعماء الدول العربية بالقمة سواء من المجموعة التي حضرت أو المجموعة التي اعتذرت أو تلك الفئات التي تخلفت أو منعت من الحضور.
البداية إذاً تقرر النهاية. وإذا كانت هذه هي بداية القمة فإن نهايتها غير مستبعد أن تكون أسوأ. وهذا يعني أن الغلبة في «الحرب الباردة» بين «التعريب» و«التدويل» ستكون في وجه من وجوهها لمصلحة المزيد من التدويل. فحين تغيب عن الساحة العربية القوى القادرة على التدخل أو تعزيز الممانعة فمعنى ذلك أن الدول العربية أخلت الساحة أو على الأقل اعطت اشارة خضراء للقوى الكبرى برفع نسبة جرعات التدويل والاستمرار في سياستها التدخلية.
بحثت قمة الخرطوم الكثير من النقاط وركزت جهدها على ملفات يرجح أن تفتح أو يعاد فتحها في الأسابيع والشهور المقبلة منها إقليم دارفور السوداني، قضية فلسطين وتفرعاتها، مسألة لبنان وعلاقاته مع سورية، موضوع العراق ومستقبله وتداعياته.
هذه النقاط طرحت على طاولة البحث وجرى تداول غيرها من الملفات في إطار وزراء الخارجية ونقل بعضها إلى دائرة القادة لمعالجة تفصيلاتها واتخاذ القرارات النهائية بشأنها.
القمة خرجت ببيان ختامي الا أن صورة الوضع العربي لا يمكن قراءة ألوانها من خلال صيغة بيان بل لابد من النظر إلى واقع الصورة لنرى مدى نجاح القمة وإمكانات تنفيذ ما توصلت اليه الدول العربية من تفاهمات.
لنبدأ أولاً بإقليم دارفور. فهذا الموضوع المستحدث يتعرض الآن لضغوط دولية وأعطيت مساحة زمنية تنتهي في سبتمبر/ أيلول المقبل لدول الاتحاد الإفريقي لمعالجة الأزمة. وفي حال فشل الحل الإفريقي ستنسحب قوات الاتحاد لمصلحة «التدويل» أو «التعريب». وحتى تأخذ الدول العربية المبادرة لابد أن تسارع إلى تمويل القوات الإفريقية بمبلغ شهري لا يتجاوز 27 مليون دولار. فهذه الموازنة تبلغ 162 مليوناً في فترة الشهور المقبلة وهي كافية لتعطيل احتمال التدويل وإرسال قوات أجنبية (أميركية) إلى دارفور.
إذا لم يحصل الاتفاق بشأن دارفور، فهذا يعني أن الدول العربية تخلت عن واجباتها وفتحت الطريق للقوات الأميركية للعبور إلى السودان.
ثانياً، قضية فلسطين. تشير التجارب الماضية والحاضرة إلى تراجع القدرة العربية على التدخل وممارسة النفوذ والتأثير مقابل الانسحاب التدريجي وترك الساحة مفتوحة للمزيد من التدخل الأميركي لمصلحة «إسرائيل». حتى موضوع «حماس» لم تتوصل الدول العربية إلى صيغة للتوافق عليه. بل إن قادة «حماس» ذكروا أن جامعة الدول تجنبت دعوتهم وحرصت على عدم حضورهم في وقت تهدد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمعاقبة الشعب الفلسطيني وتجويعه انتقاماً منه على خياراته.
اكتفت قمة الخرطوم برفض معاقبة الشعب وتجويعه وعزلت الأمر عن المسألة السياسية وموقع «حماس» الجديد في السلطة ودورها في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً، لبنان ومسألة علاقاته مع سورية وهوية مزارع شبعا. في هذا الأمر تشكلت وجهات نظر وانتقل الملف من مكان إلى آخر وتبعثر وتوزع وتشرذم بين رئيس جمهورية يمثل وجهة نظر من اللبنانيين ورئيس وزراء يمثل وجهة نظر أخرى. فالتنسيق اللبناني غير موجود وهذا أعطى ذريعة إضافية لتبرير الانسحاب العربي والتردد في التدخل تاركة الساحة إلى الدول الكبرى (أميركا) للضغط على البلاد باسم القرار 1559.
رابعاً، موضوع العراق وملحقاته. في هذا الأمر الساخن ظهرت وجهات نظر عربية ابتدأت بمقاطعة رسمية عراقية وتمنع الرئيس العراقي المعين والمنتهية مدته عن الحضور لأسباب مبررة وغير مفهومة. الموضوع العراقي أيضاً لم تتوافق الدول العربية على صيغة مشتركة بشأنه مترددة في وضع آليات عملية لتنفيذ رؤيتها. فالموقف العربي أصبح مواقف. وبسبب هذا التشويش الذهني لم يعد مفهوماً ما هو المطلوب. فهل الدول العربية (أو بعضها) مع الاحتلال الأميركي وضد التدخل الإيراني في هذه المسألة، ام ان الدول العربية (أو بعضها) مع دور إيراني ما وضد الاحتلال الأميركي، ام انها ضد الاحتلال والتدخل وتريد ان تؤخذ المصالح العربية في الاعتبار من دون ان تبادر الدول العربية إلى توضيح موقفها وترسيم دورها؟
هذا التشويش الذهني يكشف إلى حد ما مستوى التفكير الرسمي في التعامل مع قضايا حساسة وساخنة وخطرة وتهدد الأمن الوطني لدول الجوار. والمضحك المبكي في مسألة العراق أن الدول العربية لا تحدد موقعها ولا دورها وأيضاً ترفض أن يلعب غيرها أي دور في الموضوع. أي أن الدول العربية لا تريد ان تقوم بواجباتها وترفض ان يقوم غيرها بواجباته. وهذه السياسة المتهلهلة في منطقها توضح إلى حد ما كيف سيكون عليه مستقبل العراق في الشهور المقبلة.
قمة الخرطوم إذاً أعلنت فشلها قبل أن تعلن انتهاء أعمالها. فالجدول يدل على النتيجة، فهي «خراطيم» قمة يعرف كيف بدأت ولا يعرف كيف ستنتهي. فاذا كانت الدول العربية غير قادرة على التوافق على مواقف واضحة بشأن دارفور، وحماس وقيادتها السياسية، ولبنان وتوابعه، والعراق وملحقاته فمعنى ذلك ان هذا النوع من «الخراطيم» سيدفع «التعريب» إلى دهاليز مظلمة مقابل خروج قوى ميدانية لا صلة لها بالجامعة تأخذ زمام المبادرة وربما تقود الوضع العربي إلى مجهول
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1300 - الثلثاء 28 مارس 2006م الموافق 27 صفر 1427هـ