في حسابي أن القمم العربية أصبح عددها منذ قمة انشاص قرب القاهرة العام 1946 حتى قمة الخرطوم العام 2006 التي تبدأ فيها أعمال القمة اليوم، هي بالكمال اثنتان وثلاثون قمة عربية، والمفاجأة لا أعرف إن كانت سارة أو سيئة، أن لا أحد من المصادر شبه الرسمية تقرر كم قمة عربية عقدت حتى الآن، مصادر الجامعة العربية شبه الرسمية، تعتبرها فقط تسع وعشرون قمة! وهذا دليل فوق الأدلة المعروفة سلفا، التي تؤكد كم من الطاقة والوقت والمال يصرف في سبيل هذه القمم التي لا يعرف لها حصرا، فهي إضاعة للوقت وإضاعة للفرص. وبعد أن تجمع لدينا حد معقول من المعطيات كي نصل إلى نتيجة لمسيرة هذه القمم ونفرز ايجابياتها من سلبياتها، فإن القول الأقرب إلى المنطق أنها من دون فائدة! ومع ذلك يصر الجميع على أن تكون هناك قمة عربية.
الملاحظات كثيرة على فعل القمم العربية من تاريخها الطويل الذي يمتد أكثر من نصف قرن بقليل. لعلي أوجز بعضا من الظواهر المكررة في اختيار توقيت ومكان القمة العربية، كثيراً ما شاهدنا اختلافاً بينا في التوقيت وفي المكان، وكثيراً ما نقلت القمة من موقع إلى آخر، بل ان الكثير من القمم لا يعرف منظموها متى يمكن أن تعقد، حتى قبل أسابيع من عقدها. هذه الظاهرة جعلت الأمر يصبح مدعاة للتندر إلى أن جاء القرن الحادي والعشرين بالقول بانتقال القمم بشكل دوري على العواصم العربية حسب حروف الهجاء، ومع ذلك لم يصمد هذا التوافق إلا نادراً.
القمم العربية انحسرت في معالجة القضايا الساخنة، قضية فلسطين أخذت الحجم الأكبر، ولكن قضايا مثل الحروب الأهلية في الدول العربية، أو الحروب البينية بينها أو بين جيرانها، أو مشروعات سلام ناقصة في غير وقتها، منذ حرب السويس إلى حرب العراق وإيران، أو البحث في خروج دولة أو إعادتها إلى الحظيرة هي أيضا أخذت شغل قمم عربية كثيرة.
إذاً، تاريخ اجتماع القمم العربية هو في الغالبية تاريخ أزمات، حتى القمة الاقتصادية الوحيدة التي تمت في عمّان بالأردن في أوائل الثمانينات خلفت عملاً سياسياً أكثر منه اقتصادياً كما تم تقريره!
معظم القرارات للقمم العربية التي يحتفل بها الإعلام العربي تبقى حبرا على ورق، لن أشير الآن إلى لاءات الخرطوم العام 1967، ولكن أيضا قرارات القمم الأخيرة من تونس إلى الجزائر، فأين مفاعيل «بيان التطور والتحديث» الذي اتفق عليه في قمة الجزائر أخيراً؟ هو موجود على الورق، ولكن هل تمت متابعته، من المكلف بالمتابعة، معظم هذه القرارات تنسى قبل أن تعود الوفود إلى عواصمها، فلماذا إذا الاجتماع وشد الرحال؟
تذكرنا الخرطوم بقمة الخرطوم الأولى التي اجتمعت بعد الهزيمة العام 1967 هناك، وكانت قد اشتهرت بلاءات ثلاث هي «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف»... وقوبلت تلك اللاءات وقتها بجو عاصف من العواطف، وحولت لدى البعض بان فكرة الرفض ذاك هو انتصار بحد ذاته، من دون أن يسأل أحد وماذا عن الإيجاب!
جرت مياه غزيرة تحت الجسر العربي بعد تلك اللاءات هي في جردها اليوم يتبين شح الخيال في العمل السياسي العربي، فلم تمض أقل من عشر سنوات على تلك القمة حتى أصبحت دول عربية لها ثقلها في المنطقة، مصالحة ومفاوضة ومعترفة، بل تلتها منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في نفي اللاءات الثلاث وتفعيل مضادها على أرض الواقع.
بالتأكيد الظروف قد اختلفت في الإقليم وفي العالم، إلا أن الأثمان التي دفعت من أجل تلك السياسات كانت باهضة، لقد اقتتل الإخوة والأشقاء، واختلف الحلفاء، وضاعت أنفس بريئة على طول الأرض العربية، وتقاسم الجميع اللوم، إلا أن أحدا لم يلم نفسه إلا فيما ندر، أو ينفر من تقرير سياسة هي طوع الشعوبية وليست قريبة من العقلانية. لو فعل العرب ذلك أو جزءا منه، لحقنت دماء كثيرة للأخوة، واحتفظ بأرض عن العبث، وسخرت أموال ضخمة للتنمية، وأنقذت أوطان من الاحتلال.
قيل الكثير في ذلك الأمر الذي عرضت ولا يحتاج مثله إلى تكرار، إلا أن ما يراد التذكير به هو أن قمة الخرطوم الحالية ستقع في الغالب، من دون محاولة اختراع العجلة، في الإشكالات نفسها التي وقعت فيها القمم السابقة.
سيبقى العرب على مطالب الدولة المضيفة، كما هي في مضابط جلسات التحضير، وفي التوصيات الأخيرة حتى لو كانت تلك المطالب غير عقلانية، هذه المرة الخرطوم ليست معنية بلاءات خارجية، بل معنية بلاءات داخلية، وهي تتلخص في لا للتدخل «الغربي» في شئون دارفور! سيقول العرب مع الخرطوم نعم! ولكنه قول مجامل لا قولا له علاقة بما سيحدث على الأرض.
أما الملفات الأخرى في قمة الخرطوم فهي كثيرة، لم تعد فلسطين، على أهميتها، هي الوحيدة على جدول أعمال العرب، فقد اختلف العرب علنا في كيفية تناول الملف الفلسطيني، وجاءت حماس إلى الحكم غير المؤكد حتى الآن، لخلط الأوراق أكثر مما هي مخلوطة، ولا يستطيع العرب إلا أن يقفوا مكتوفي اليد بين حماس والسلطة الفلسطينية. ثم هناك الموضوع اللبناني/ السوري، وهو ملف شائك، لن تفيد فيه الإبر التخديرية، إن لم يكن هناك رأي في أين يقف العرب من الاغتيالات ومن التدخلات، ومن يقرر سياسة الدولة حكومتها أم ميليشياتها؟ تلك أسئلة صعبة، لن يقرر العرب فيها شيئا إذا لزمت غالبيتهم المجاملة، أو لزم بعضهم التصعيد والمزايدة!
ثم هناك ملف آخر هو العراق، وهو ملف شائك ومتعرج، له أكثر من ضلع، أميركا وإيران والعرب أو بعضهم، فكيف يمكن أن يعالج الملف وهم، أي العرب، بعيدون عن أرض العراق قليلو التأثير في نتائج ما يمكن أن يحدث هناك!
اجتماع الخرطوم لن يخرج عن معظم الاجتماعات السابقة. هو اجتماع بروتوكولي تريد بعض الأطراف أن تخرج بورقة مؤيدة لما يخصها، لاستخدام هذه الورقة في المستقبل للمناورة أو للتفاوض، وهي ورقة في الأصل لا تعني غير حاملها.
مختصر القمم العربية مع الأسف هو تاريخ من الفشل بعد الفشل، لا لأن العرب لا يستطيعون أن يقيموا ما يحيط بهم من أخطار، أو يستبينوا ما يلوح لهم من فرص، بل لأن عدة التغيير وأداة التأثير لم تعد موجودة، فمصر البلد الكبير الذي كان لها ثقل ملحوظ لم تعد كذلك في العقود الأخيرة لأسباب كثيرة لا تخفى، ولا يوجد محور عربي جاد يقدم الحلول ويسارع في تأييدها، ولو كانت مرة. اجتماع القمم هو اجتماع مجاملة تفشل كل مرة في مصارحة موضوعية، بعض الخطب التي تقال في رحابها مثيرة للتندر، وبعضها مثير للاشمئزاز.
وفي بيئة الخرطوم في أواخر مارس/ آذار، التي تكون عادة متربة مغبرة، سيكون من العسير أن ينفك المجتمعون من هكذا بيئة، فقد ينعكس تأثير تلك البيئة المغبرة على أعمال القمة وعلى توصياتها أيضاً
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1299 - الإثنين 27 مارس 2006م الموافق 26 صفر 1427هـ