تبدأ القمة العربية أعمالها اليوم في الخرطوم وسط ضغوط دولية تواجه الدول من المحيط إلى الخليج. الضغوط الدولية ليست جديدة على الأمة، إلا أن هذه المرة هناك ما يشبه المواجهة السلمية بين التعريب والتدويل تتناول مختلف القضايا المزمنة والمستحدثة.
سابقاً كانت خطط التدويل موجودة كذلك قرارات الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من مواثيق وهيئات. الا ان قدرة الولايات المتحدة على التدخل مباشرة آنذاك كانت معطلة تقريباً بسبب وجود قوة دولية منافسة تمنع عليها امكانات التلاعب أو الانفراد.
هذا التوازن الدولي السلبي تراجع بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي. والتراجع أعطى فرصة استثنائية للولايات المتحدة للتقدم لتعبئة الفراغ السياسي وزيادة جرعات تدخلها المباشر للقبض على المواقع الاستراتيجية والسيطرة على مصادر الخامات والطاقات.
أوروبا أيضاً لم تستطع حتى الآن ان تأخذ مبادرات مستقلة عن مظلة الولايات المتحدة الا في حالات قليلة كما حصل في فترة التحضير للحرب على العراق في العام 2003. كذلك نجحت بعض دول الاتحاد الأوروبي في تمييز نفسها عن السياسات الأميركية المؤيدة بالمطلق لكل الممارسات الإسرائيلية في فلسطين.
حتى الآن لاتزال أوروبا تقاوم النفوذ الأميركي وتحاول قدر الإمكان ان تقدم نفسها وسيطاً دولياً ثانياً... إلا أن محاولاتها باءت بالفشل نظراً لضعف الاتحاد البنيوي وحاجته للمظلة العسكرية (الأمنية) التي يطلق عليها الحلف الأطلسي (الناتو).
روسيا كذلك لم تستطع ان تستعيد فعاليتها الدولية الا بحدود نسبية. ولكنها في المقابل اضطرت مراراً إلى التراجع امام الضغوط الأميركية وقدمت أحياناً تنازلات قاسية تمس امنها الوطني وتعرض حدودها للمخاطر كما حصل مع جمهوريات آسيا الوسطى ثم جورجيا واوكرانيا... وأخيراً بيلاروسيا.
الصين أيضاً لاتزال تبحث عن دور دولي على رغم قوتها السكانية وموقعها المتميز في شبكة التجارة الدولية. فقوة الصين الاقتصادية لم تترجم حتى الآن إلى قوة سياسية يحسب لها الحساب.
كل هذه العوامل الدولية لعبت دورها في اضعاف الدول العربية وتعطيل إمكانات الدفاع عن مصالحها أو الاعتراض على تلك النزعة الهجومية العدوانية التي أسستها واشنطن عسكرياً في التسعينات وإعادة استثمار نتائجها السياسية في مطلع القرن الجاري متذرعة بضربات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
أميركا استفادت كثيراً من انسحاب الاتحاد السوفياتي من خريطة المنافسة الدولية كذلك حاولت قدر الإمكان تعطيل نمو دور الاتحاد الأوروبي... وهذا كله أسهم في اضعاف الموقع العربي في المعادلة الدولية وجعل جامعة الدول مجرد وعاء يحتوي عناصر الازمات ولا يتمتع باية قدرة على احتواء المشكلات والعمل على السيطرة عليها أو التدخل لحلها وفق آليات عربية مشتركة.
هناك إذاً مشكلة دولية موضوعية تواجه الدول العربية. وهذه المشكلة طبعاً ليست الجامعة العربية مسئولة عنها. فالجامعة في النهاية هي نتاج التوازنات العربية وما تعانيه من تدخلات دولية أضعفت الأمن العربي وعطلت بعض قدراته لمصلحة «إسرائيل».
لاشك في أن المتغيرات الدولية زادت من نسبة القدرات الأميركية التدخلية. فهذا العامل الموضوعي ضغط بقوة على نظام عربي هو اشبه بمجموعة أنظمة غير منسجمة في بنيتها الاجتماعية وتطورها الاقتصادي وطبيعة علاقاتها السياسية. وبسبب وجود هذه الاختلافات بين الأنظمة تشكلت مجموعة سياسات غير متوافقة مصلحياً في رؤية القضايا المشتركة وأسلوب التعامل معها والسلوكيات المطلوبة لإدارة الصراع مع «إسرائيل».
اختلاف التوجهات العربية ليست جديدة أيضاً. فهي قائمة منذ تأسيس جامعة الدول في العام 1945. إلا أن تطور العلاقات الدولية وبروز قطب ضاغط يجذب بعض الأطراف العربية إليه بعيداً عن محيطه الإقليمي أسهم في اضعاف الرؤية المشتركة واعطى ذريعة سياسية للتدخل الأميركي المباشر وممارسة نفوذه وتصوراته على القضايا العربية.
قمة الخرطوم الآن أمام تحد لا سابق له. فهناك الكثير من القضايا المطروحة تواجه تلك الاحتمالات المتراوحة بين «التعريب» و«التدويل». عناصر التعريب قوية ولكنها تحتاج إلى رؤية مشتركة وآليات عملية وميدانية للتنفيذ. وعناصر التدويل قوية وهي تستفيد من قدراتها التدخلية بسبب قوتها الميدانية وامتلاكها للآليات وأدوات التنفيذ مضافاً إليها انسحاب أوروبا وروسيا والصين نسبياً من المشهد الدولي.
هناك إذاً ما يشبه «الحرب الباردة» بين التعريب والتدويل. وهذه المواجهة السلمية تحتاج إلى إجماع عربي يضبط ايقاعها السياسي حتى تستطيع الوقوف على ابسط متطلبات الأمن العربي. هذا الاجماع المطلوب غير موجود لمئة سبب وسبب. وحين تفتقد الجامعة إلى نوع من الإجماع فمعنى ذلك أن التعريب يفتقد إلى التوازن المطلوب لمواجهة مخاطر التدويل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1299 - الإثنين 27 مارس 2006م الموافق 26 صفر 1427هـ