العدد 1297 - السبت 25 مارس 2006م الموافق 24 صفر 1427هـ

المياه الافتراضية

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

تعرف «المياه الافتراضية» بأنها كمية المياه المستخدمة لإنتاج محصول زراعي أو منتج صناعي، فعلى سبيل المثال تدل المتوسطات العالمية على أنه يحتاج إنتاج كيلو جرام واحد من الحبوب 1500 كيلو جرام من الماء، أو ما يعادل 1,5 متر مكعب من الماء (أو بمعنى آخر لإنتاج طن من الحبوب نحتاج 1500 طن من المياه)، كما يحتاج إنتاج لتر واحد من الحليب حوالي متر مكعب من المياه ولكيلو غرام من الجبنة أكثر من 5 أمتار مكعبة مياه، ولإنتاج كيلو جرام واحد من اللحم الأحمر 14 متراً مكعباً من المياه، ولإنتاج شريحة كمبيوتر ذات سعة 32 ميجابيت وتزن 2 جرام نحتاج 30 كيلو جراماً من الماء، وهكذا...

ولذلك فإن الدول التي تصدر المحاصيل التي تحتاج في إنتاجها المياه بكثافة فإنها فعلياً تصدر المياه التي استخدمت في إنتاج هذه المحاصيل، أي أن هذه الدول تساند بشكل غير مباشر الدول المستوردة لهذه المحاصيل في احتياجاتها المائية، إذ انه من شبه المستحيل الاتجار في المياه نفسها بين الدول بشكل مباشر بسبب الظروف السياسية والكلف الاقتصادية المصاحبة لنقل المياه، إلا أن الاتجار بالمحاصيل والمنتجات كثيفة الاستخدام للمياه ممكن وعملي، وهذا الاتجار في السلع الغذائية شائع بين مناطق العالم المختلفة منذ آلاف السنين. ولذلك فإنه بإمكان الدول شحيحة الموارد المائية أن ترشد مياهها المستخدمة في القطاع الزراعي وأن توفر كميات كبيرة منها من خلال استيراد المحاصيل ذات الاستهلاك العالي للمياه بدلاً من إنتاجها محلياً، وذلك تماشياً مع نظرية التجارة الدولية: على الدول أن تصدر المنتجات التي تمتلك فيها الميزة النسبية أو المقارنة في عملية إنتاجها، وأن تستورد المنتجات التي لا تمتلك هذه الميزة في إنتاجها.

وحالياً تشير الدراسات بشأن التجارة العالمية إلى أن حوالي 1000 بليون متر مكعب يتم الاتجار بها بين دول العالم المختلفة على هيئة مياه افتراضية، منها نحو 67 في المئة على هيئة محاصيل زراعية، و23 في المئة على هيئة منتجات حيوانية، و10 في المئة على هيئة منتجات صناعية ويمثل هذا ما نسبته حوالي 20 في المئة من استخدامات المياه الكلية في العالم وحوالي 25 في المئة من استخدامات المياه العالمية في إنتاج الغذاء. وتبين الدراسات أن أكبر مصدر للمياه الافتراضية هي أميركا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وأميركا الجنوبية، وبأن أكبر مستورد لها هي أوروبا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وجنوب إفريقيا. كما تشير الدراسات إلى أن هذه النسب في تزايد مستمر بسبب الزيادة في الطلب على الغذاء بسبب النمو السكاني، وثورة الاتصالات وانفتاح الأسواق والبورصات العالمية.

ويعتبر مبدأ «المياه الافتراضية» حديثاً نسبياً إذ ظهر في بداية التسعينات من القرن الماضي بواسطة الباحث البريطاني «طوني ألن» من معهد دراسات الشرق وإفريقيا بجامعة لندن، والذي قام بنشر دراسة بحثية في العام 1993 قدم فيها هذا المصطلح، ومن ثم تبع البحث بعدة بحوث تطرقت إلى هذا المبدأ ودوره في عملية السلام في الشرق الأوسط والتي كانت آنذاك من المناطق المرشحة لحروب المياه. وطرح «ألن» هذا المبدأ لحل مشكلة زيادة العجز المائي في دول المنطقة، على أساس أن هذا الحل يمثل ميزة سياسية كونه حلاً صامتاً ولن يثير جدلاً حاداً في الدول المتنازعة على المياه وبأن تحريك المياه الافتراضية بين هذه الدول له وطأة سياسية واقتصادية منخفضة مقارنة بالحلول الأخرى.

ويرجع «ألن» ذلك إلى أن القيادات السياسية في دول الشرق الأوسط لا تستطيع مواجهة قضايا العجز المائي أمام شعوبها بسبب القيمة الاستراتيجية للمياه، وبأن شعوب المنطقة تكون لديها اعتقاد راسخ أن المياه ستكون متوافرة في المستقبل كما كانت في الماضي. ولذلك، قد يكون من الأسهل على السياسيين في هذه الدول اللجوء إلى المياه الافتراضية بطريقة سلمية وغير جلية للعيان، عن مواجهة شعوبهم في قضايا شح المياه وتزايد السكان والطلب على الغذاء. كما أن هذا الخيار له ميزة اقتصادية كون الاتجار بالمياه الافتراضية في الحبوب (المحصول الاستراتيجي الأول للدول) يتم بأقل من كلفة إنتاجها، إذ تبلغ كلفة إنتاج طن واحد من الحبوب نحو 200 دولار أميركي في الدول المصدرة للحبوب، بينما تباع في السوق العالمية بنحو 150 دولاراً أميركياً. كما أن سعر الحبوب في البورصات العالمية في انخفاض مستمر، ويرجع ذلك لزيادة العرض في السوق العالمية بسبب تطور تقنيات الإنتاج، وكذلك بسبب الدعم المقدم للقطاع الزراعي في الدول الزراعية مثل فرنسا وأميركا وغيرها من الدول المصدرة للحبوب (وهي أحدى المشاكل العالقة في تطبيق قوانين منظمة التجارة العالمية). ولذلك فإن الدول المستوردة للحبوب تحصل على هذا الدعم بشكل غير مباشر وبأسعار زهيدة. أضف إلى ذلك، والطرح ما يزال لـ «ألن»، فإن المياه الافتراضية تمنع أزمات المياه من التطور إلى حروب مياه، وعليه لا داعي للجوء إلى نزاع مسلح باهظ الثمن بينما تتوافر وسيلة المياه الافتراضية بسهولة عن طريق استيراد الحبوب بأسعار مدعومة وبكميات هائلة من المياه.

وبعيداً عن أطروحات «ألن» السياسية عن المياه الافتراضية، والتي يتم وصفها في الوطن العربي بالساذجة أحياناً لعدم أخذها في الاعتبار الأوضاع السياسية والحقوق التاريخية للمياه في المنطقة وقضايا العرب المركزية، وأحياناً أخرى بالخبيثة بسبب تبعاتها السياسية والاقتصادية والتي قد تؤدي إلى إنشاء أسواق للمياه الافتراضية تعطي المنتجات الزراعية أكثر من قيمتها السوقية ويمكن أن تتحكم بها دول غير صديقة للدول العربية ما يعرض للخطر الأمن المائي والغذائي للدول المستوردة، بالإضافة إلى أن هذا المبدأ ليس بجديد إذ انه يعتمد على نظرية الميزة النسبية الاقتصادية، ومن الحكمة، بل من الطبيعي للدول الفقيرة في الموارد المائية أن تستورد المنتجات الزراعية من الدول ذات الميزة النسبية في الموارد المائية.

بعيداً عن كل ذلك، فإن مبدأ المياه الافتراضية له الكثير من الفوائد التطبيقية في إدارة المياه والزراعة، أولها أن معرفة كمية المياه الافتراضية لمحصول ما يدل بشكل عام على التأثير البيئي المصاحب لإنتاج هذا المحصول، ويخلق وعياً وإدراكاً لكل من العموم وأصحاب القرار على السواء عن كميات المياه المطلوبة لإنتاج المحاصيل المختلفة، ولذلك فإنه يعطي فكرة واضحة عن المحاصيل الأكثر تأثيراً على النظام المائي، وبالتالي المحاصيل التي يمكن تحقيق أكبر وفر في المياه فيها. وبناءً عليه، يمكن للدول أن تختار رفع الدعم عن المحاصيل ذات الاستهلاك العالي للمياه، أي تطبيق الدعم الانتقائي لتشجيع المزارعين على التحول إلى محاصيل بديلة قليلة الاستهلاك للمياه، واستيراد المحاصيل المكلفة مائياً، ما يؤدي في النهاية إلى تقليل استهلاك المياه بشكل عام على المستوى الوطني.

التطبيق الثاني لمبدأ المياه الافتراضية هو مقارنة القيمة الغذائية للمنتج بكمية المياه المستخدمة لإنتاجه، فعلى سبيل المثال لإنتاج كيلو جرام من البطاطس أو الطماطم أو البصل نحتاج لأقل من 0,3 متر مكعب، ولكن إذا نظرنا إلى أحد عناصر القيمة الغذائية لهذه المحاصيل، الطاقة مثلاً، سنجد أنها تصل في حال البطاطس إلى أكثر من 6000 سعرة حرارية للمتر المكعب، بينما للطماطم حوالي 1500 سعرة حرارية للمتر المكعب، وللبصل 2200 سعرة حرارية للمتر المكعب. أي أن المتر المكعب الواحد المستخدم لإنتاج البطاطس ينتج طاقة تعادل الطاقة الناتجة عن استخدام 2,5 متر مكعب على البصل و 5 أمتار مكعبة على الطماطم. وبمقارنة العناصر الأخرى للقيمة الغذائية مثل البروتين والكالسيوم والحديد...، يمكن اختيار المحاصيل ذات القيمة الغذائية الأعلى الناتجة من المتر المكعب ماء المستخدم في إنتاجها، وبذلك يتم تشجيع زراعة هذه المحاصيل لتوفير المياه وكذلك لتعظيم فائدتها الغذائية للمجتمع.

التطبيق الثالث هو التعرف على نمط الاستهلاك الغذائي للمجتمع باستخدام مؤشر «بصمة المياه الافتراضية»، وهي كمية المياه الافتراضية الكلية للمنتجات التي يستهلكها الفرد الواحد في مجتمع ما (أو بلد أو إقليم) في اليوم (أو في السنة). فعلى سبيل المثال نجد أنه في المجتمعات الخليجية والتي تشكل اللحوم، وبالذات الحمراء، جزءاً أساسياً في النظام الغذائي تكون قيمة هذا المؤشر مرتفعة جداً وتصل إلى أكثر من 2000 متر مكعب للفرد في السنة، بينما تنخفض قيمة هذا المؤشر بشكل كبير (500 متر مكعب للفرد في السنة) في الدول التي تعتمد على المنتجات النباتية في نظامها الغذائي مثل دول شرق آسيا والباسيفيكي. كما لوحظ انخفاض هذا المؤشر في أوروبا منذ بداية الثمانينات بسبب تطور الوعي الصحي وتغير النظام الغذائي نحو التخلي عن اللحوم الحمراء لصالح اللحوم البيضاء والمنتجات النباتية، الأمر الذي حدا بالبعض إلى طرح موضوع تغيير النظام الغذائي في مناطق العالم المختلفة كأحد الحلول لمشكلة تناقص المياه!

وبشكل عام، يظل الأخذ بمبدأ المياه الافتراضية مفيداً جداً في إدارة ثنائية المياه والغذاء أو ربط السياسات المائية بالسياسات الزراعية والمساهمة في التخطيط الاستراتيجي لإدارة الموارد المائية بشكل متكامل مع القطاع الزراعي في الدول العربية وخصوصاً دول مجلس التعاون، والتي يمثل القطاع الزراعي فيها المستهلك الأكبر لموارد المياه في هذه الدول، إذ يصل استهلاك هذا القطاع في دول المجلس إلى أكثر من 85 في المئة من الاستهلاك الكلي للمياه. ويتسم هذا القطاع في بعض دول المجلس بزراعة محاصيل ذات استهلاك عال للمياه (القمح والشعير والأعلاف) لا تتناسب مع شحة مواردها المائية، ويزيد من تفاقم كمية الاستهلاك استخدام طرق الري التقليدية (يمثل الري بالغمر 75 - 95 في المئة من المساحات الزراعية) ذات كفاءة الري المنخفضة التي ينتج عنها هدر كبير من المياه المستخدمة. أضف إلى ذلك ضعف مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي المحلي (3-0,5 في المئة) ومحدوديته في توظيف العمالة الوطنية لمعظم دول مجلس التعاون. وفي معظم مناطق دول المجلس لا توجد الميزة النسبية للقطاع الزراعي مقارنة بالدول الزراعية الأخرى، وإن وجدت فهي بسبب الدعم الحكومي لبعض أو معظم عناصر الإنتاج (المياه، الطاقة، الأراضي، الأسمدة، ...).

وبسبب عدم وجود الميزة النسبية في العناصر الطبيعية للإنتاج الزراعي (المياه، المناخ، التربة) نجد أن الكلفة المائية لإنتاج المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية هي أعلى من المعدلات العالمية، فعلى سبيل المثال تحت ظروف البحرين تدل الدراسات على أنه لإنتاج لتر واحد من الحليب نحتاج أكثر من 3 امتار مكعبة من الماء ولإنتاج كيلو غرام واحد من اللحوم الحمراء نحتاج إلى أكثر من 18 متراً مكعباً من المياه، مقارنة بمتر مكعب واحد و14 متراً مكعباً لهذين المنتجين، على التوالي.

ولكن يبقى هاجس الأمن الغذائي لتلبية متطلبات النمو السكاني المتزايد وتبعات الاعتماد الكبير على استيراد الغذاء والأخطار السياسية المصاحبة موجوداً لدى قادة وسياسيي المنطقة، ولذلك فإنه لا يوجد لدى دول مجلس التعاون من خيار استراتيجي بعيد المدى إلا النظر إلى هذه القضية من منظورين، الأول تقني والثاني قومي عربي، والأول سيتم التطرق له لاحقاً في مقالة منفصلة، أما بالنسبة للثاني، فإننا إذا نظرنا إلى احتياجات الغذاء في دول المجلس سنجد أن معظمها يمكن تحقيقه من خلال التكامل العربي ليس في المياه وإنما في المياه الافتراضية، أي المنتج من المياه، فبلد مثل السودان بإمكاناته المائية وخصوبة أراضيه وتوفر العمالة الزراعية يستطيع بالاستثمارات المناسبة من دول مجلس التعاون والاستقرار السياسي المطلوب وقوانين حماية الاستثمارات الخارجية أن يكون بالفعل سلة الغذاء ليس لدول المجلس فحسب بل لجزء كبير من دول العالم العربي.

أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العربي

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1297 - السبت 25 مارس 2006م الموافق 24 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً