قل هو أمر لابد منه في كل عصر، وهو كذلك أمر بين أمرين، اما ان يكون استمراراً لحرب مشتعلة أصلاً بين فريقين أو أكثر ولكن بوسائل أخرى عكساً للمقولة الشهيرة للمنظر الغربي الشهير كلاوسفتز: «الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى»، أو هو وسيلة متقدمة لمنع قيام حرب إذا ما اشتعلت قد تسفر عن فواجع وكوارث لا تبقي ولا تذر، وقد تترك آثاراً من الصعب معالجتها بالوسائل التقليدية إن فشل الحوار في ردعها. في العراق المستنزف كما في لبنان الممتحن كما في فلسطين الذبيحة، دائماً ثمة من طاولة حوار قائمة على رغم كل الدخان المنبعث.
الحوار الأميركي - الإيراني المعلن عنه أخيراً والذي قيل انه بشأن العراق أو استمرار لما هو حاصل أو محيط بالعراق، هو أيضاً لا يختلف شأنه عن شأن أي حوار آخر عبر التاريخ!
ففي التاريخ البعيد وكما ينقل الرواة بالاجماع فإن ثمة حوار قام بين الإمام الحسين (ع) وقائد جيش الخصم عمر بن سعد في خيمة الأخير وباقتراح من الأول استمر ثلاث جولات لم يستطع فيه الأول ردع الثاني عن اشعال الحرب على رغم كل الاقتراحات الناصحة فيما اندفع الثاني إلى ارتكاب جريمة تاريخية ظلت وصمة عار تلاحقه وتلاحق قياداته لا يستطيع أحد تطهير آثارها حتى لو استخدم كل مياه زمزم وسائر المطهرات الأخرى. المقصود من استحضار هذه الواقعة التاريخية هو ان المشكلة أو الخلاف لم يكن ولا يجوز ان يكون بشأن مبدأ الحوار، بل المهم ماذا نريد ان نقول في الحوار، أو إلى ماذا نهدف منه؟ الذين أعلنوا معارضتهم لأي حوار أميركي إيراني بشأن العراق بذريعة ان ذلك يشكل شرعنة للتدخل الإيراني القائم في العراق سرعان ما سيكتشفون ان مساعيهم المعارضة لمثل هذا الحوار لن تجدي نفعاً لهم بل ربما سيتم استغلال هذا الجهد ايا كانت نواياه حسنة ومهما كانت اسبابه صادقة في الدفاع عن حرية العراق واستقلاله، في خدمة هذا الطرف أو ذاك من طرفي الحوار، بمعنى انه سيوازن كفتي الحوار لمصلحة من هو الاقدر على استثماره! «فالحوار» قائم أصلاً حتى وان لم يعلن عنه والطرفان المتنازعان موجودان أصلاً على الأرض، رأينا ذلك أم لم نره، والمتدخل الأكبر في العراق معروف أصلاً بقواته وأعماله وممارساته التي لا يجوز شرعنة تدخله من خلال التلهي بالحديث عن المتدخلين الآخرين مهما كان حجم تدخلهم، ولاسيما ان تدخلهم لم يكن ممكناً أصلاً من دون التدخل الأكبر والأهم.
المهم ان يعلن معارضو هذا الحوار وهو من حقهم الذي لا يستطيع احد مساومتهم عليه ماذا يريدون من الطرفين المتحاورين، الآن وقد وصل خصامهما ونزاعهما وتداخل نفوذهما إلى طاولة الحوار، اضافة إلى تنبه المتحمسين لهذا الحوار من بني جلدتهم بل وتحذيرهم من مخاطر ان تكون طاولة الحوار مجرد «استراحة محارب» استعداداً لاطلاق حرب أخرى. وهو ما يعتقد البعض بان الطرف الأميركي انما أعلن عنه وهو في نيته مثل هذه الأفكار. والمهم ان يتم وضع مبادئ عامة لأي متحاورين آخرين بشأن العراق قد تكون ابرزها الجدولة الزمنية الواضحة لقوات الاحتلال وإعادة السيادة والاستقلال الناجزين لاهل العراق والحرية الكاملة لشعبه، وعندها فقط لن يستطيع احد أن يبرر لا مشروعات تدخله المعلنة ولا المبطنة. ومثل هذا المشروع لا يمكن ان ينجح إلا من خلال وحدة وطنية عراقية راسخة تمنع تسلل الأجنبي وكل من يبطن السوء للعراق من التدخل مجدداً في شئونه. بمعنى آخر فان الاجدى والأكثر نفعاً اليوم هو أن نحذر مما يعد عملياً من حروب مذهبية وطائفية وأهلية، بل وحروب إقليمية جديدة باسم الحوار ومن تحت طاولته، بدل ان نتلهى وننقسم بين موافق ومعارض للحوار! تماماً كما فعلوا من قبل بين مكونات الشعب العراقي بشأن الاشتراك أو عدم الاشتراك في العملية السياسية والانتخابات إلى أن وصل بالبعض ممن كانوا من اشد المعارضين لمبدأ الانتخابات إلى قبولهم بالعملية السياسية والاشتراك بالانتخابات مقابل ضمانات تطمينية يقدمها المحتل والغازي، بل إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن ومن على شاشات التلفزة ألا تتم مهاجمة القرى والبلدات وألا يجرى مزيد من المداهمات التي تقوم بها قوات الشرطة والجيش العراقي إلا برفقة القوات الأميركية!
باختصار شديد، فإن ثمة من يتخوف ان يكون وراء دعوة الأميركي اليوم لإيران للتحاور بشأن العراق فخاً ليس فقط للايقاع بإيران في مستنقع العراق، بل والايقاع بالعراقيين أنفسهم في فخ الانفسام والتمزق والتشتت. وإيران من جهتها أيضاً مطالبة أكثر من أي وقت مضى بقول كلمتها واضحة وصريحة لا لبس بها بشأن الاحتلال الأميركي والأجنبي للعراق وضرورة رحيله في أقرب وقت ممكن ودعم استقلال العراق الناجز ووحدة أراضيه ودعم ومساندة الجهود الرامية إلى وحدة أهله الوطنية من دون غلبة طائفة على أخرى أو قومية على أخرى، بل مساندة ودعم كل جهد يمنع نشوء حروب داخلية كامنة، بالمقابل فإن العراقيين مطالبون أكثر من أي وقت مضى بتقديم الضمانات الكافية والواضحة والصريحة ليس لإيران فقط، بل ولكل دول الجوار بأن العراق لن يكون مقراً ولا ممراً للتآمر على الأمن القومي لأي منهم. عدا ذلك فإن أي حوار مفيد شرط ان نعرف ماذا نريد منه، وان يكون مقدمة الاعتراف بحقوق الآخر المضيعة واستردادها، وليس سلب حقوق جديدة أو مقدمة لحروب أدهى وأمر
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1297 - السبت 25 مارس 2006م الموافق 24 صفر 1427هـ