في المسألة الفلسطينية يدخل عنوان جديد على الخط: التطبيع بين كيان العدو والدول العربية والإسلامية، مقابل وقف الاستيطان، وبما أن الاستيطان لا يتوقف لأنه يمثل القلب النابض للاحتلال، فإن المسألة تدخل في نطاق لعبة جديدة يستمر الاستيطان فيها، ويقبل العرب بمعطياته، لأن العدو أعطاه اسما جديدا هو «التكاثر الطبيعي» الذي تتوسّع فيه دائرة الاستيطان فيها من دون أن تنشأ مستوطنات جديدة، وتمتد إلى الضفة كلها وسط صمت العرب وخضوعهم.
وإلى جانب ذلك، تبرز العنصرية الإسرائيلية بأبشع صورها في مصادقة الكنيست الصهيوني على مشروع قانون يحكم بالسجن على من ينكر يهودية الدولة، بعد القانون الذي سبقه والذي يمنع الفلسطينيين من الاحتفال بيوم النكبة، ليبرز هذا الكيان بكل ملامح حقده التي لا تطيق رؤية مظاهر الحزن لشعب طُرد من أرضه، وشُرّد في أوضاع العالم، ولأنه يعرف أن هوية الأرض لا تأتي من الخارج، وبالتالي فهو يخاف من كل هذه الأجيال الفلسطينية التي فشل في تهويدها وسلبها هويتها الحقيقية... ولكن العدو استفاد - على كل حال - من برقيات التهنئة العربية التي باركت له ما أسمته «عيد الاستقلال»، ليأخذ من ذلك دافعا جديدا لتهويد الأرض ومصادرة إنسانها الأصيل، ومع أن العدو يذهب بعيدا في طمس الهوية العربية الفلسطينية، والاستعداد لتهجير فلسطينيي العام 1948، ويضرب عرض الحائط طرح الدولتين الأميركي الأصل، فإنه يلتقي بعرب الاعتدال في منتصف الطريق، الذين ينتظرون بفارغ الصبر بروز صفقة شكلية يحملها الراعي الأميركي ليقدّموا للغاصب الصهيوني التبريكات بفلسطين، بما يمثل صكَّ الاعتراف العربي الممهِّد للاعتراف الإسلامي الكبير...
لقد كان البعض يظن بأن العرب - في بعض رموزهم الرسمية - هم ضحية للبساطة والسذاجة والعفوية التي جعلتهم طوال هذه العقود يتنازلون عن كل ما بأيديهم لأميركا و «إسرائيل»، لكن تبيّن أن ثمة عقدة مستحكمة لدى هذه المواقع تجاه شعوبها ومصالحها، حتى سارت في خط ضرب كل الواقع العربي والإسلامي لمصلحة العدوّ الأول للعرب والمسلمين، وهو الكيان الإسرائيلي الغاصب.
إننا نحذّر هؤلاء الذين خرجوا من دائرتهم الشعبية ليرتموا في الدائرة الصهيونية، ليطلقوا الأحاديث والتصريحات اليومية حول ضرورة استمرار الحوار مع «إسرائيل»، من أن ما يجري من حديث حول ما يسمّونه السلام لا يعدو كونه دورانا في الحلقة المفرغة، وليس إلا حركة استهلاكية خادعة يُستهلك فيها الوقت لحساب الكيان الصهيوني، وتسقط فيها مقررات مؤتمر مدريد ثم أوسلو ثم خريطة الطريق وصولا إلى أنابوليس وما بعده...
كما نحذّر من لعبة اختلاق عدوّ للأمة من داخلها، مقابل الاستعداد لقبول عدوّها التاريخي كصديق وشريك، لأن ما ترسمه الأنظمة لا تتبناه الشعوب، ولأن لعبة التخويف من إيران باتت مكشوفة ومفضوحة، ولأن العدو الذي يتوجس خيفة من إمكانات إيران وقدراتها وتأثيرها في ساحات المنطقة المختلفة، يحسب الحسابات الصعبة والمعقّدة، قبل أن تحدّثه نفسه بالاعتداء عليها، وبالتالي فإن أكثر الناس بساطة في عالم السياسة هُم الذين يتوسّلون تحسين مواقعهم السياسية من خلال مراهناتهم على مغامرات عدوّهم، بدلا من أن يتلمّسوا طريق الحوار وخطى الوحدة في آفاق أمتهم ورحاب أهلهم وإخوانهم.
وليس بعيدا من ذلك كله، نستمع في هذه الأيام إلى تهديدات متواصلة تنطلق مما يسمّونه العالم الحر ضد كوريا الشمالية لأنها أجرت بضعة تجارب نووية، مع أنها ليست الأولى في هذا المحيط النووي العالمي الذي تمتد جذوره من أميركا إلى أوروبا والصين، وصولا إلى الهند وباكستان والكيان الصهيوني، ومع أنه لا توجد قوة في العالم استعملت السلاح النووي ضد البشرية إلا الولايات المتحدة الأميركية، ولكن القوم يثيرون المسألة بالطريقة التي يبعثون بها برسائل الوعيد إلى إيران، وببرقيات التهدئة إلى كيان العدو الذي يهدد دول المنطقة كلها، ويعمل على ألا تمثل أية دولة تهديدا له حتى على مستوى الموقف الحر والمستقل، أو على مستوى الطموح العلمي البحت.
إننا نقول للرئيس الأميركي: إن ما تشاهدونه من اضطراب وفوضى في هذا العالم هو نتاج ما صنعته أيديكم، وما زرعته إدارتكم السابقة، وإذا كنت صادقا في دعواتك السابقة الرامية إلى الخلاص من السلاح النووي على مستوى العالم، فما عليك إلا أن تبدأ بالتغيير من بلادك، وخصوصا أنكم تتحدثون عن أميركا كقائدة للعالم، فلماذا لا تكون هذه التجربة بمثابة الدرس الذي تقدمونه للعالم أجمع؟... وقد قال الشاعر:
إذا كان ربُ البيتِ بالطبل ضاربا
فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ
ومن جانب آخر، تابعنا مؤتمر مجلس وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي شارك فيه 57 وزير خارجية أو ممثلون عنهم، ليخرجوا ببيان سُمّيَ «إعلان دمشق»، وفيه دعوة إلى عدم مكافأة «إسرائيل» على جرائمها، وربط أي تطوير للعلاقات معها بتنفيذها لقرارات مجلس الأمن الدولي، مع أن ثمة دولا حضرت المؤتمر وهي تقيم علاقات مع العدو، ولم تكلّف نفسها أن تسحب سفيرها أو أن تمارس أي ضغط إعلامي أو سياسي عليه، حتى في الوقت الذي كان يرتكب أبشع الجرائم في حق الفلسطينيين، بل إن هذه الدول تمارس نوعا من التنسيق الأمني والسياسي مع العدو ضد الفلسطينيين والمقاومين، على مرأى ومسمع من منظمة المؤتمر الإسلامي التي لم تكلّف نفسها أن تطالب هؤلاء بالكف عن لعبة المقامرة بشعوبهم وبحقوق الأمة وكرامتها.
إننا نخشى من أن يقتصر دور المنظمة على تلطيف الأجواء استعدادا لترتيبات معينة مع الأميركيين ومع العدو، ونخشى من أن يكون هذا الإعلان قد حمل في طياته استعدادا إسلاميا رسميا للاعتراف بـ «إسرائيل»، وبالتالي فعلى الشعوب الإسلامية أن تحدد من الآن فصاعدا سقف التعامل مع هذه المنظمة ومع الجامعة العربية، اللتين تحوّلتا إلى ما يشبه التجمّع الذي يصدر البيانات لحفظ ماء الوجه عند الأزمات، وربما تُصاغ هذه البيانات خارج نطاق الواقع الإسلامي والعربي كله.
أما في لبنان الذي ينام على شائعة ويستفيق على أخرى، فإننا نستغرب عدم قيام الدولة بتحقيق خاص حول الجهات والأسماء العاملة على الترويج للفتنة، سواء أكانت هذه الجهات سياسية أم إعلامية، وخصوصا أن التسريبات التي تبثها هذه الصحيفة الأجنبية أو تلك حول جريمة اغتيال الرئيس الحريري تلتقي بالأهداف والغايات التي عملت شبكات التجسس الإسرائيلية ولا تزال تعمل على تحقيقها، والدولة معنية بالبحث عن هؤلاء المسرِّبين وخفافيش الليل، تماما كما هي معنية بالقبض على العملاء والجواسيس والخونة.
إننا نحذّر من أن المسألة لا تستهدف تشويه صورة المقاومة الشريفة فحسب، بل تسعى أيضا لحشرها في زاوية الدفاع عن النفس داخليا، ولجعلها تستنزف وقتها وشغلها داخليا بما يعطي العدو هامش المناورة والحركة والهجوم، في وقت تزداد الأوضاع خطورة، وتتصاعد التهديدات الإسرائيلية على أبواب المناورة التي يحاول العدو أن يُحاكي فيها هجوما مباغتا على لبنان.
إننا في الوقت الذي نرحب باهتمام الدولة على مستوى المجلس الأعلى للدفاع في متابعة تطورات التهديدات وأخطار المناورة الإسرائيلية القادمة، ونقدّر لرئيس الجمهورية مواقفه الحاسمة في دعم المقاومة، والتأكيد على ضرورتها وأهميتها إلى جانب الجيش وأجهزة الدولة، نؤكد على جميع المسئولين القيام بواجباتهم فيما يحفظ السلم الأهلى للبنان، من خلال السعي لسَوْق المتورطين باختلاق الشائعات إلى قبضة العدالة، حيث لا يكفي النفي الرسمي أمام المحاولات الخطيرة الرامية إلى إشعال البلد كله بفتنة كبيرة وفوضى خطيرة يُراد لها أن تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2458 - الجمعة 29 مايو 2009م الموافق 04 جمادى الآخرة 1430هـ